وقبل اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، شكّلت البادية السورية مسرحاً لعمليات أميركية استعراضية بين وقت وآخر، إذ تتّخذ واشنطن من «مكافحة الإرهاب» هناك ذريعة لحضورها العسكري في سوريا. كذلك، شكّلت البادية ميدان نشاط لفصائل المقاومة التي بدأت ترفع من مستوى عملياتها ضدّ الوجود الأميركي الذي تعمل على إخراجه من سوريا، كونه غير شرعي أولاً، وللدور الفتنوي والتقسيمي الذي يلعبه هذا الحضور عبر دعم مشاريع انفصالية، على رأسها مشروع «الإدارة الذاتية» الكردي، في الشمال الشرقي من البلاد (المناطق النفطية السورية)، وصولاً إلى الرقة. وبعد اندلاع الحرب الإسرائيلية، وبسبب الدعم الأميركي غير المحدود للكيان، كثّفت فصائل المقاومة نشاطاتها، عبر تنفيذ سلسلة عمليات استهداف بالطائرات المُسيّرة والقذائف الصاروخية، طاولت القواعد الأميركية في العراق وسوريا، قبل أن يطلّ تنظيم «داعش»، أو ما تبقّى من خلاياه المنتشرة في البادية السورية برأسه مجدّداً، ويرفع من مستوى هجماته على مواقع انتشار الجيش السوري والفصائل التي تؤازره، خصوصاً في المنطقة الواصلة بين محافظات الرقة وحمص وحماة.
بدا لافتاً استثمار فصائل المقاومة نقاط القوة التي تتمتّع بها البادية السورية
ولم يكن اختيار هذه المنطقة اعتباطياً، بل باعتبارها أولاً إحدى المناطق التي تنشط فيها عمليات اكتشاف واستخراج الغاز الطبيعي، ما يعني أن إشعالها سيساهم في زيادة الضغوط على دمشق التي تحرمها السيطرة الأميركية من أبرز مواردها النفطية في الحسكة ودير الزور. ومن جهة أخرى، تُعتبر هذه المنطقة بعيدة نسبياً عن القواعد الأميركية، وبالتالي من المناسب إشعال معارك إشغال تستنزف الجيش السوري فيها من دون أن تطاول نيران تلك المعارك القواعد الأميركية، التي تحاول التركيز على رفع جودة تحصينها، وضمان فرض سيطرة على محيطها عبر الدعم المطلق لـ«قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، الشريك الموثوق بالنسبة إلى واشنطن. وتُضاف إلى ما تَقدّم، أهداف أميركية تتمثّل في الحدّ قدر الإمكان من الحضور العربي في محيط المواقع النفطية، ودفع التشكيلات العربية إلى الانخراط في مشروع آخر موازٍ لـ«قسد» يتّخذ من منطقة التنف مقراً له (جيش سوريا الجديد).
في ظلّ ذلك، بدا لافتاً استثمار فصائل المقاومة نقاط القوة التي تتمتّع بها البادية السورية، والتي تنتشر فيها جبال ومغر ومناطق صخرية توفّر حماية للمقاتلين تمنع واشنطن من رصد تحركاتهم، وتصعّب من شنّ أي عمليات كبيرة ضدّهم، وهي النقاط نفسها التي يعتمد عليها مقاتلو تنظيم «داعش» المنتشرون هناك. وتمدّ واشنطن، وفق تأكيدات دمشق وروسيا، يدها إلى مسلّحي تنظيم «داعش»، سواء عبر مساعدتهم في تفادي المراقبة الروسية المستمرة للأجواء، أو عبر تزويدهم بأجهزة اتصال وأسلحة بعضها نوعي، ظهر ذلك خلال الهجمات التي نفّذها مقاتلو التنظيم» مطلع الشهر الحالي. وفي المقابل، تتعرّض القواعد الأميركية لعمليات استهداف تنفّذها فصائل المقاومة، التي تتحرّك عبر عربات منفصلة تنفّذ استهدافات بعيدة، وتعاود الانسحاب إلى مواقع آمنة.
وأمام معارك الاستنزاف المتبادلة والمستمرّة تلك، وفي ظلّ التعقيدات الميدانية، لا تَظهر أيّ مؤشرات إلى وجود أفق واضح لهذه المعارك، ما يعني استمرارها ما دامت واشنطن تبقي على قواعدها في سوريا، من دون أن تتحول إلى حرب مفتوحة، ومن دون أن تسرق الأضواء بشكل كامل من خطوط التماس المجمّدة نظرياً، والمشتعلة على أرض الواقع. وهو اشتعال مردّه إلى محاولات «هيئة تحرير الشام» والفصائل «الجهادية» التابعة لها خرق تلك الخطوط وتنفيذ هجمات بالقذائف والطائرات المُسيّرة، الأمر الذي يردّ عليه الجيش السوري بناءً على بنك أهداف يتمّ تحديثه باستمرار عن طريق الطلعات الدائمة لطائرات الاستطلاع السورية والروسية.