لندن | قطع السير كير ستارمر، زعيم «حزب العمل» البريطاني المعارض (يسار الوسط)، والطامح إلى تولّي رئاسة الوزراء بعد الانتخابات العامة المقبلة، الشكّ باليقين، في شأن موقف قيادة حزبه من الحرب الإسرائيلية على غزة، وذلك في خطاب ألقاه، قبل أسبوعين، أمام منسوبي «المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية» (تشاتام هاوس)، إذ حدّد في سياقه بوضوح اصطفافه الحاسم إلى جانب أميركا وسائر القوى الغربية، في دعمها حرب الإبادة الجماعية في القطاع، ورفْض الدعوات إلى وقف إطلاق النار، لأن من شأن ذلك أن يترك البنية الأساسية لـ»حماس» سليمة، و»مصدر تهديد محتمل» للكيان. لكنّه قَبِل مبدأ «الهدن» الإنسانية، لتسهيل جهود إغاثة السكان المدنيين الغزيين من قِبَل «المجتمع الدولي».كلمات ستارمر في خطابه المشار إليه، كانت منتقاة بحرفيّة، مع تطعيمات شكلية متوقّعة من زعيم سياسي بدأ حياته المهنيّة محامياً لحقوق الإنسان: أمور مِن مِثل التخفيف من «المعاناة الإنسانية»، وضرورة اتّباع قواعد «القانون الدولي» - عند قتل المدنيين. فزعيم «حزب العمل» كان يخاطب في «تشاتام هاوس»، ممثّلي النخبة البريطانية الحاكمة، عرابة المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. وبما أن «السير» الذي يقود اليسار الرسمي في المملكة، طامح - ومرشّح جدّي - لتولّي منصب رئيس وزراء الملك تشارلز الثالث، بعد الانتخابات العامة المرتقبة في الشهر الأول من عام 2025، فقد كان ضرورياً له أن يطمئن النخبة البريطانية، وراعيتها الأميركية، إلى أنّه يمثّل انفصالاً تامّاً ونهائياً عن تجربة «حزب عمل جيريمي كوربن» - اليساري الورديّ -، وقادر على التموضع في إطار مربّع «حلف شمال الأطلسي»، والنظام الرأسمالي، والحكم الملكي، ودعم إسرائيل، على رغم كلّ الانتقادات الحزبية الداخلية والاحتجاجات الجماهيرية المتكرّرة التي تقوم بها قواعد الحزب وجمهوره، وبالتالي مؤهل تماماً لتولّي المنصب التنفيذي الأرفع في هيكلية السلطة البريطانية.
ويبدو أن الخطاب حقّق أغراضه؛ إذ إن الصحف البريطانية الرئيسة - وكلّها ناطقة بلسان النخبة الحاكمة وأثرياء المملكة - تعاطت مع مضمونه بإيجابية لافتة، فيما عزّزت التظاهرات الصاخبة المناهضة للحرب على غزة من قيمة الرسالة التي أراد صاحبها البعث بها إلى كلّ المعنيين بمستقبله، سواء في لندن أو في واشنطن. وفي ترجمة عملية لمضمون الخطاب، أصدر ستارمر تعليمات صريحة بتصويت نواب حزبه في «مجلس العموم» (النواب) بالتماهي مع موقف «حزب المحافظين» اليميني الحاكم، ضدّ مشروع قرار تقدّم به «الحزب القومي الاسكتلندي» لتعديل خطاب الملك للدورة البرلمانية، وتضمينه دعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة. ومن بين 650 نائباً بريطانياً، صوّت 125 نائباً فقط، لمصلحة المشروع، ومن بينهم 56 نائباً عن «العمل» تمرّدوا على توجيهات قيادتهم، فيما اضطرّ ثمانية من وزراء الظلّ إلى الاستقالة من مناصبهم في طاقم ستارمر، لاعتراضهم على موقف الحزب، بعضهم لأسباب مبدئية، وآخرون تجنُّباً لفقدان مقاعدهم في الانتخابات المقبلة في مناطق تبدو شعبياً مؤيّدة للفلسطينيين.
على أن خطاب ستارمر لم يأتِ بالطبع من فراغ؛ فهو عمل بشكل ممنهج، منذ تولّيه قيادة «حزب العمل» بعد هزيمة 2019 الانتخابية، على استئصال شأفة كلّ مَن يمكن أن يدعم الفلسطينيين، وتقصّد بشكل صريح طرد كوربن، الزعيم السابق للحزب، المتعاطِف مع قضيّة فلسطين، ومنْعه من الترشّح على قوائم «العمل» في منطقته السكنية التي مثلّها لعدّة عقود متتالية. وتكرّست هيمنة التيار اليميني - الذي يُعدّ توني بلير زعيمه الروحي -، خلال مؤتمر الحزب الأخير في تشرين الأول الماضي، بعدما سيطر ممثّلوه على المناصب القيادية، وانعكس ذلك تصفيقاً منتظماً وحماسيّاً لكلّ جملة قالها ستارمر بخصوص تأييده لإسرائيل، وهو أمر كان مستحيلاً في المؤتمرات التي كانت تجري في عهد كوربن.
عمل ستارمر بشكل ممنهج، منذ تولّيه قيادة «حزب العمل» بعد هزيمة عام 2019 الانتخابية، على استئصال شأفة كلّ مَن يمكن أن يدعم الفلسطينيين


ومنذ بداية الحرب على قطاع غزة، أدلى ستارمر بتصريحات متعاقبة في دعم النظام الإسرائيلي و»حقّه (الملتبس قانونياً) في الدفاع عن نفسه» - عبر قتل المدنيين -، ووصلت به الحال إلى حدّ القول في مقابلة إذاعية، إنه يدعم قطع الإسرائيليين الماء والغذاء والكهرباء عن السكان المحاصرَين في غزة. ويمثّل موقف ستارمر استمرارية لمواقف اليسار البريطاني المخزية تجاه قضية فلسطين منذ قيام الكيان العبري، والتي تبدو مرحلة جريمي كوربن فيها استثناءً نادراً. ففي عام 1948، كان رئيس الوزراء «العمّالي»، هارولد ويلسون، من أشدّ المدافعين عن الصهيونية، واعتبر تأسيس الكيان بمثابة «تجربة اشتراكية رائعة»، فيما لم تمتلك الأحزاب اليسارية سوى الصمت على أعمال التطهير العرقي ضدّ الفلسطينيين، ولم تجد أيّ مفارقة نظرية بين ادعاء الماركسية، وتبرير مشروع هندسة اجتماعية بغيضة للاستعمار الاستيطاني نُفّذت على الأرض العربية بالدم. وفي المراحل اللاحقة، حافظ «حزب العمل» البريطاني على أوثق العلاقات مع نظيره الإسرائيلي، بما في ذلك خلال حرب الـ 1967 العدوانية. وفي عهد بلير في قيادة «العمل» ورئاسة وزراء بريطانيا، تعزّزت علاقات اليسار (الجديد) بالنظام الإسرائيلي، ورفض الحزب الدعوة إلى وقف إطلاق النار في الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، ودُعي بلير شخصياً - بعد تركه رئاسة الوزراء في 2007 - بدفعٍ إسرائيلي، إلى تولّي إدارة «اللجنة الرباعية»، وكان دوره محوريّاً في ثني السلطة الفلسطينية عن محاولتها في الأمم المتحدة الحصول على إدانة لجرائم الحرب التي ارتكبتها في غزة خلال عملية «الرصاص المصبوب» (2008-2009)، فيما اسمه مطروح حالياً - ودائماً باقتراح إسرائيلي - لتولّي منصب مبعوث أممي خاص لـ»السلام» في غزة.
ولكن أين تقف كوادر الحزب العمالية والنقابية والطلابية من هذا الانحياز المخجل إلى الإبادة الجماعية الذي تظهره القيادة، ولا سيما أن الحزب مظلّة عريضة للنقابات والتجمعات السياسية والاجتماعية اليسارية وليس حزباً تقليدياً؟ في الحقيقة، فإن يسار «حزب العمل» المنكمش على نفسه، كان حذراً في تجاوز أيّ سقوف للتعبير حول فلسطين، والتزم الثرثرة حول تقليل الخسائر في صفوف المدنيين و»الأزمة الإنسانية» الناجمة عن الهجمات الإسرائيلية، من دون المطالبة بإنهاء الاحتلال أو التعبير عن حقّ الفلسطينيين في المقاومة، بعدما خضعت الكوادر لتضييق بيروقراطية القيادة على أيّ نقاش حول الإبادة الجماعية في غزة، أو المشاركة في الاحتجاجات الشعبيّة الرافضة للحرب. ولولا اندفاع قطاعات عريضة من مكوّنات الشعب البريطاني للاحتجاج في الشوارع والجامعات ومحطّات القطار، لَمَا وجد بعض كبار ممثّلي الحزب البارزين حرجاً في تبنّي مواقف القيادة ذاتها، وهو ما انتهى إلى استقالة عدد من أعضاء المجالس المحلية العمّالية، تجنباً لسقوطهم شعبياً في أيّ انتخابات قادمة. كما أدلى عمدة لندن، صادق خان، وعمدة مانشستر الكبرى، آندي بورنهام، وزعيم «حزب العمّال الاسكتلندي»، أنس سروار - وهم يمثّلون مناطق فيها تجمّعات للمسلمين والعرب وتغلب عليها التيارات الوسطية -، بتصريحات صحافية مؤيّدة لوقف إطلاق النار - فحسب.
على أن جميع قيادات اليسار البريطاني، تَجد يوماً بعد يوم أن مواقفها المهادنة متأخّرة كثيراً عن توجّهات قواعدها والكتل الشعبية تجاه حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، وستجد - إن استمرّت الحرب لأسابيع قليلة مقبلة - أنها ربّما حافظت على مناصبها ورواتبها وامتيازاتها، لكنها حتماً ستخسر ثقة شارعها واحترامه. ويسارٌ بلا شارع، لن يكون بأيّ حال أكثر من نادٍ ثقافي للجدل الأسبوعي، عديم التأثير على الأحداث وخارج التاريخ.