غزة | لم تتوقّف جريمة تدمير المستشفى «الإندونيسي» في حيّ تل الزعتر شمالي قطاع غزة، عند ما تسبّب به القصف المباشر، من تدمير لغرف العناية المركّزة، واستشهاد لأكثر من 15 مصاباً كانوا يتلقّون العلاج، ثمّ توقيفٍ للمستشفى عن العمل بشكل كلّي، واحتجاز لأكثر من 2000 نازح و700 مصاب في أقسامه المدمّرة، إذ استهدف القصف، في الوقت عينه، مربّعاً يحوي أكثر من خمس مدارس، تحوّلت مع بدء الحرب إلى مراكز إيواء، ونزح إليها عشرات الآلاف من المواطنين، من الأحياء التي طاولها القصف الجوي العنيف خلال الأيام الـ23 التي سبقت بدء العملية البرية، من مثل بيت حانون، وبيت لاهيا، والسكة، والعزبة، ومدينة الشيخ زايد، ومدينة العودة، وأبراج الندى والقرية البدوية، وتل الزعتر، ومشروع بيت لاهيا. وكانت أولى المدارس التي طاولتها قذائف المدفعية، «مدرسة خليفة بن حمد»، حيث سقطت عدّة قذائف مدفعية في الطابق العلوي منها في تمام الساعة الثانية من ليل الأحد - الإثنين، وتسبّبت باستشهاد وإصابة العشرات. ثمّ توالى القصف إثر ذلك، وطاول بشكل مباشر محيط أربع مدارس أخرى في المربّع نفسه، هي «الكويت» و«حلب» و«بيت لاهيا الجديدة» و«عوني الحرثاني»، ليتسبّب بموجة نزوح جماعية. هكذا، انطلق سيل بشري مهول وسط الليل الحالك، من مربّع «الإندونيسي» المستهدف، إلى عمق مخيم جباليا، حيث المشهد الذي كشفت عنه ساعات الصباح الأولى في شارع الترنس ومحيط عيادة «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» (أونروا) وسط المخيم كان صادماً: عشرات الآلاف من الأطفال، والنساء، والمسنّين، والجرحى، والمرضى، والأطباء، يفترشون الشوارع، بينما دفق بشري آخر، يسير بغير هدى إلى المجهول. «إلى أين تذهبون؟»، سأل مراسل «الأخبار»، فأجاب رجل خمسيني يدفع والدته المسنّة على كرسي متحرك: «مش عارفين، قصفونا وإحنا نايمين، حتى اللحظة مش عارفين بحلم ولا بعلم إحنا».
الشقاء الجسدي والتكلفة المادية، ليسا أكثر ما هو مؤذٍ في مغامرة النزوح


في تمام الساعة السابعة صباحاً، كان الآلاف من الأهالي يخرجون من معسكر جباليا بحثاً عن مكان يؤويهم، فيما آخرون قصدوا الطريق إلى مناطق جنوب وادي غزة. لكنّ السبيل إلى شارع صلاح الدين ليس سهلاً؛ إذ يلزم مَن يعزم على النزوح عبره، أن يمتلك كثيراً من المال، وكثيراً من الشقاء أيضاً. يقول النازح رامي محمد، الذي خاص المغامرة: «تطلّب وصولنا من حيّ الشيخ رضوان إلى مفترق الكويت، وهو آخر نقطة يُسمح للسيارات بالوصول إليها، دفع مبلغ 100 دولار، علماً أن تكلفة مواصلة كهذه في الوضع الطبيعي 3 دولارات فقط، ثمّ مشينا لأكثر من ساعتين، حتى وصلنا إلى نقطة تمركز الدبابات على مفترق صلاح الدين، ثمّ مشينا ساعة أخرى حتى وصلنا إلى مخيم النصيرات، ومن هناك، دفعنا 100 دولار أخرى للوصول إلى مدينة خانيونس جنوب غزة».
على أن الشقاء الجسدي والتكلفة المادية، ليسا أكثر ما هو مؤذٍ في تلك المغامرة. تقول النازحة حنين عابد، التي خاضت الرحلة برفقة ثلاثة من أبنائها، إنها اضطرت للمشي مئات الأمتار من فوق جثامين الشهداء المتحلّلة، أو العائلات التي قُصفت وهي في طريقها إلى «حيث كنّا نتّجه». تتابع في حديثها إلى «الأخبار»: «حين مررنا من أمام الدبابة الإسرائيلية، كان هناك جندي يمسك مكبّر صوت، وقال لنا اعبروا اعبروا راحت غزة، راحت فلسطين، فما كان من ابني الذي لم يتجاوز من العمر التسع سنوات إلّا أن ردّ صارخاً، راحت إسرائيل... راحت أميركا يا ولاد الكلب، فلسطين ما بتروح».
في جباليا، حلّ الليل البارد. تجوّل مراسل «الأخبار»، ليل الإثنين - الثلاثاء، بين المئات من الأهالي الذين يبيتون على بلاط الشوارع: فتاة عشرينية تحتضن ثلاثة أطفال وتلتصق بالجدار، عجائز ومسنّون بالقرب من سوق المخيم المهجور والمعتم، فيما تحت واحدة من بسطات الباعة يحتمي العشرات من المطر المنهمر من دون غطاء ولا فراش، ومن بينهم ثلاثة مصابين نزحوا من «الإندونيسي». تظنّ نفسك أمام مشهد من فيلم رعب، قبل أت يتبادر إلى ذهنك سريعاً أن ظلام السوق يخفي المئات من أمثال هذا المشهد، وربما ما يفوقه إيلاماً.