منذ اللحظة الأولى لحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة، والمُسمّاة في خطاب العدو بـ«السيوف الحديدية»، بدا واضحاً، طبقاً لوزير الشتات الإسرائيلي السابق، نحمان شاي، أنه «سيكون للرأي العام وزنٌ وتأثيرٌ على أمد العملية ونتائجها». والسبب، أن «الحروب، منذ فترة طويلة، لم تَعُد محضَ صراع بين قوات عسكرية في ساحة معركة محدّدة، بل تخطّت ذلك»؛ إذ «تمتدّ (ساحة المعركة اليوم) إلى جميع أنحاء العالم»، لكونها «تدمج بين عوالم محتوى متنوّعة، بما فيها الشبكات الاجتماعية والحيّز العام، واستديوهات التلفزة، وعناوين الصحف». ويتطلّب كلّ ذلك، وفق ما أورده في مقالة في صحيفة «معاريف»، أن تفوز إسرائيل «في جميعها، فكلّها مهمّة، وكلّها تصمّم صورة المعركة الحالية، وكذلك صورتها النهاية».وفي أعقاب الهجوم الذي شنّته حركة «حماس» في السابع من أكتوبر الماضي، ومن ثمّ الدخول البري لقوات جيش العدو إلى غزة، تزايدت، وفق شاي الذي سبق أن تولّى منصب الناطق باسم الجيش، «الحاجة (الإسرائيلية) إلى ربط حماس باستخدامها المشوَّه للمرافق والمنشآت المدنية. فهذه الأخيرة محمية بموجب المعايير القتالية المتّفق عليها، وقد امتنع الجيش الإسرائيلي عن مهاجمتها»؛ علماً أنه، منذ الأيام الأولى للحرب، وحتى قبل محاصرتها واقتحامها مستشفى «الشفاء»، قصفت إسرائيل مستشفى "الأهلي" (المعمداني)، ولم تترك مرفقاً مدنياً إلّا واستهدفته، بما في ذلك قتْلها موظّفي المنظمات الأممية، والصحافيين، وفرق الإسعاف، وصولاً إلى قصف المدارس ومراكز الإيواء والمساجد والكنائس، ما يعني أنها لم تترك قانوناً دولياً يتعلّق بالحرب، إلا وداست عليه. وادّعى الوزير السابق أن «استخدام حماس المنشآت المدنية كان معروفاً ومثبتاً في الماضي»، مستدركاً بالقول: «هذه المرّة، وبإصرار أكثر من أيّ وقت مضى، اقتحم الجيش الإسرائيلي قلْب الحركة، ومقرّها الرئيس، ومنشآت القيادة والسيطرة التي طُمرت عمداً تحت الأرض، وتحت غطاء المنشآت الآمن ظاهرياً. (وحماس طمرت هذه المواقع لأن) المعاهدات الدولية، والقوانين المنصوص عليها في شأن الحرب تنطبق على إسرائيل فقط، وليس على حماس»، ما يعني، بحسبه، أن الأخيرة أغفلت أن إسرائيل «أثبتت، على مرّ التاريخ وليس في هذه الحرب فقط، عدم اكتراثها بالقوانين الدولية إطلاقاً». وعزا شاي إخفاق الجيش الإسرائيلي في «غزوة الشفاء»، إلى أن الناطق باسمه، دانييل هاغاري، استعرض بادئ الأمر صوراً تمثيلية لـ«مقرّ القيادة التحت أرضي، والواقع تحت أكبر المراكز الصحيّة في القطاع»، ليبدو «واضحاً (مذّاك) أن الجيش سيتوجّه إلى هناك»؛ وبالتالي، كان لدى "حماس" الوقت الكافي عمليّاً «لإزالة الأدلة». و«في نهاية الأسبوع الماضي، وبعد جهودٍ عدّة، بدأت المقاطع المُصوّرة من داخل المستشفى بالظهور أخيراً، أي بعدما بات واضحاً أن المستشفيات لم تَعُد المرافق الأكثر أهميّة بالنسبة إلى حماس، فقد انهارت، وأزيلت التابويات».
مع ذلك، قال شاي: «لا يوجد، إلى الآن، ما يكفي من الأدلّة المهمّة والمقنعة. ومن المؤكد أن تلك المنشأة المرعبة المخبّأة تحت المستشفى لم يتمّ عرضها بعد». وتابع: «لكي نكون على علم، فإن الإعلام الدولي هو إعلام حداثي. ومن جهته - وهو محقّ في ذلك - العالم مليء بالأكاذيب. وهو ما يتبدّى مثلاً في الحرب المتواصلة بين روسيا وأوكرانيا. وبالفعل، مَن يَعرف حقّاً ما الذي يدور هناك؟ الذكاء الاصطناعي يَسمح اليوم بإنتاج كلّ شيء، وتزييف كلّ شيء، نصوصاً، صوراً، وكذلك شخصيات إنسانية. ولا توجد صعوبة في تقديم الأدلّة الفوتوغرافية والأدلّة الشفهية وكشْفها للعالم. ولذلك، فإن علامات الاستفهام (حول أدلّة إسرائيل)، التي نرفضها بازدراء، تثار في مختلف المنابر حول العالم».
استخدمت إسرائيل في حربها الدعائية عدداً من «إستراتيجيات الكذب»


أمّا النضال حول الرأي العام، بحسب شاي، فـ«صعب»؛ ذلك أن «إسرائيل لا تمتلك كل الأدوات». وفي هذا الصدد، أشار إلى «فيلم المذبحة» الذي عرضته إسرائيل أمام سفراء دول العالم وإعلاميين غربيين ونواب "الكنيست" ووزراء الحكومة الذين لم يتحمّلوا «المشاهد المرعبة» التي وُثّقت في يوم «هجوم السبت»، وخرجوا باكين ومنهارين بعد العرض. برأيه، «اكتسب الفيلم مصداقية، ومن الصحيح استخدامه على أوسع نطاق ممكن، وبالحساسية المطلوبة». ولكن، «من أجل إقناع الجمهور المستهدَف، أو ما يُسمّى بالرأي العام من خلال عوامل وسيطة، مثل وسائل الإعلام والمؤثّرين والقادة المنتخَبين والمنظمات الدولية، سيتعيّن على الجيش الإسرائيلي تقديم المزيد من الأدلّة الدامغة. نحن، في إسرائيل، نعتقد، بالطبع، أن العالم اليهودي والعديد من الأشخاص الطيبين في العالم، الذين تحطّمت قلوبهم بسبب محنتنا، وحتى محنة المواطنين الفلسطينيين، مؤمنون بذلك. وهذا لا يتعارض. لكنّ اللعبة التي أمامنا في إقناع "العالم"، تبدو صعبة وقاسية للغاية».
وعلى الرغم من فشل الجيش في إظهار أيّ دليل على ما ادّعاه، رأى شاي أن على الأخير الاستمرار، «والإتيان بأدلّة إضافية: مستشفيات إضافية تنتظر في الطريق، وسيضطرّ الجيش لدخولها جميعاً، ولكنّ العدو الذي أمامنا حضّر نفسه لمواجهة هذا المسار، وهو بطبيعة الحال يقوم في هذه الأثناء بالفعل في إخفاء الأدلّة، ويدمّر الأنفاق، ويزيل الوسائل القتالية، بحيث تصبح مهمّة الجيش الأصعب على الإطلاق، وهو بالضبط ما حصل في مستشفى الشفاء». ومع أنه «يحترم بشدّة» المعركة على الرأي العام، والمعركة على الوعي، وأنه «من أشدّ المعجبين باستخدام أيّ وسيلة يمكنها التأثير على القتال وتحريكه في الاتجاه الذي يَخدم مصالحنا»، فإنه «في هذه اللحظات، نعلم أنه لا توجد سوى لغة واحدة يتمّ التحدّث بها في غزة، وهي لغة القوّة. ولذلك، يجب قتل القادة كما تم القضاء على صدام حسين وأسامة بن لادن وغيرهما من الزعماء الذين قادوا العمليات والحروب الإرهابية، لأنه فقط القضاء على الهرمية القيادية المركزية إلى جانب إفقاد النظام بأكمله السيطرة والتسبّب في انهياره، هما من الإنجازات الكبيرة في الوقت الراهن». وعلى رغم أنه «سيكون من الرائع لو دعمونا أكثر وأظهر "العالم" التعاطف والتفهّم، لكن في هذه اللحظة الحرجة لا يُنظر إلا إلى الإنجاز العسكري والمختطفين فقط، فهم وحدهم المهمّون والحاسمون». أمّا أضرار البروباغندا «فسنصلحها في وقتٍ لاحق».
واستخدمت إسرائيل في حربها الدعائية تلك، عدداً من "إستراتيجيات الكذب"، كما يعرّفها علم النفس؛ ومع ذلك، لم تنجح في المعركة على الرأي العام. والإستراتيجيات الخمس التي استخدمتها، وفقاً للاختصاصي في علم النفس، محمد أبو صليّح، هي: أولاً «التكرار»، إذ عمدت منذ عقود إلى تكرار كذبة «الجيش الذي لا يُقهر»، صانعة عقليّة من الخوف الجمعي من جيشها وقدراتها العسكرية تحديداً بعد نكسة عام 1967، قبل أن تتهشّم هذه الأسطورة بعد عدوان تموز 2006، وتسقط كليّاً منذ بدء "طوفان الأقصى". أمّا الإستراتيجية الثانية، فهي «دمج الحقائق بالأكاذيب»، والتي تقوم على خلط تفاصيل حقيقية مع الأكاذيب لتصبح الأخيرة أكثر قابلية للتصديق، الأمر «الذي تجلّى في كذبة قطع حماس لرؤوس الأطفال، مع حقيقة وقوع الهجوم في السابع من أكتوبر»، وفق ما يشير أبو صليّح.
والإستراتيجية الثالثة، هي «البساطة في الطرح»، والتي استخدمتها إسرائيل مع الشعوب الغربية بشكل خاص كون هذه الشعوب ليست لديها الدراية والمعرفة الكافية حول جذور القضية الفلسطينية، و«هو ما تبدّى في طرح الاحتلال للصراع على أنه "صراع بين الخير والشر"، وبين "الحضارة والهمجية" من خلال لغة بسيطة وسهلة ومكرورة ينجم عنها في النهاية إيجاد حقيقة "وهمية" قد يستمرّ الناس في تصديقها حتى بعد تفنيدها، فقط لأنها تبدو سهلة». كذلك، استخدمت إسرائيل إستراتيجية «المماطلة في الردّ»، والتي من خلالها هدفت إلى كسْب الوقت لتحويل انتباه الرأي العام العالمي، مستبقةً ذلك بالإنكار وإضفاء الغموض على الأحداث من أجل «الشروع في البحث عن الحقيقة»، للتأكيد على «شفافيتها ومصداقيتها»، تماماً كما فعلت في قضيّة قصف المستشفيات في غزة. أمّا الإستراتيجية الأخيرة التي اعتمدتها، فهي «الثقة المفرطة»؛ إذ وبحسب أبو صليّح، يبالغ الاحتلال في إظهار ثقته بنفسه كأداة للتسلّل إلى اللاوعي الجمعي، وهو ما يفسّر أيضاً أن كُثراً تساءلوا ما إنْ كان الناطق باسم الجيش، هاغاري، يستغبي العالم. ولكنه لم يكن يفعل ذلك، فهو يظنّ أن كلّ ما يقوله صادق وعلى الجميع تصديقه أيضاً، كنتيجة لثقته المفرطة بنفسه.