الإنسان... سأبدأ بهذه الكلمة لأنها اسمنا جميعاً، أو هكذا يُفتَرَض.ما الذي يجب أو يمكن فعله لإنقاذ شخص واحد من الموت؟ إنسان واحد، قد يكون أباً أو أمّاً، أخاً أو أختاً، ابناً أو ابنةً، فرداً واحداً من عائلة أحدنا، رأينا أمثلة على ذلك، وبعضنا عايشها، وحين نتذكّر ما حدث أو نرويه، سيكون اسم هذا الفرد المحور الذي تدور حوله القصة. في الحقيقة، سيكون هو القصة، ومع الأسف، الأخبار لا تقول أهم ما يجب أن يُقال، لأن قصصها غالباً من دون أسماء، إلّا إذا كان الخبر عن رئيس أو ملك أو أمير، أو شخصية ما «مهمة»، حينها سيُذكر الاسم لأنه سيكون هو الخبر، حتى لو كان هذا الرئيس أو الملك فاسداً وظالماً، وفي كثير من الأحيان ستُمجَّد هذه الأسماء. الزملاء في غرف الأخبار يعرفون عاهة هذه الأخبار، بخاصة في القنوات التلفزيونية.
حتى هذا اليوم، يكاد عدد شهداء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة يقترب من الثلاثة عشر ألفاً، ونحو عشرين ألف مصاب وجريح، ومع الأسف، وبخجل أقول، إننا مجبرون على الوقوع في إثم التعامل مع استشهادهم وكأنّهم أرقامٌ، ولربما تغفر الخطيئةَ لنا قليلاً ضخامةُ العدد، عددُ ضحايا حرب الإبادة المفتوحة التي تواصلها «إسرائيل».
تحت اسم الإنسان والإنسانية، أُسِّسَت مؤسسات ومنظمات، ووُضِعَت في هالةٍ من التقديس وصارت فوق مستوى الشبهات، ممنوعٌ مساءلتها أو التشكيك فيها، مع أن بعضها، بل معظمها، يمتلك تاريخاً حافلاً بكل ما يثير الريبةَ والشكَّ والاتهامَ أيضاً.
«الأمم المتحدة»، «مجلس الأمن الدولي»، هما اليوم تسميتان لإشكالية إنسانية وأخلاقية، وجميع المؤسسات والمنظمات الـ (مظبوطة الأداء والدور) التي تدور في فلكهما، أو التي تم إنشاؤها لمواكبة تنفيذ قراراتهما، وضمان نجاح سياساتهما، كـ «الأونروا» مثلاً (والحديث عنها وعن دورها يطول)، بعض المنظمات الأخرى إشكالية من نوعٍ آخر، كـ «هيومن رايتس ووتش». عدد كبير من الدول تقول الكلمة الصحيحة ولكن ليس لكلامها ولقراراتها القدرة على إيقاف المجزرة، هذه المنظمة الـ «قصيرة اليد»، من يملك فكرة عن عدد بياناتها التي تدين كيان الاحتلال، العدّ يطول، ولكنه حتماً ليس بعدد الجرائم الإسرائيلية.
حتى «محكمة العدل الدولية»، لمحة عابرة على تاريخها وسيبدو جلياً متى وكيف ولماذا تحركت، في المستقبل لن يختلف الأمر، فهناك سيكون مجلس الأمن أيضاً بالفيتو وقراراته السباعية أو السداسية، وببياناته غير الملزمة.
هذه المؤسسات، وكما توحي التسميات، من شأنها أن تضمن حقوق الإنسان وتدافع عنها، ولكنها اليوم، ومع استمرار الجريمة الإسرائيلية المفتوحة في قطاع غزة، كل هذه المؤسسات لا تعني شيئاً، وكتابة أسمائها على الصفحات، أو ذكرها في الفضائيات لا يعني شيئاً، بل صار بمنزلة خطيئة تُرتَكب ضد الإنسان والإنسانية، وإهانة للعقل والفكر والمشاعر، كل هذه المؤسسات اليوم منتحلة شخصية، ولا فرق، شخصية قانونية أو إنسانية، كل قاضٍ فيها، كل محامٍ، كل من يعرف دورها الحقيقي ويعرف كيف تُسَّير الأمور ويعيش أيامه وكأن شيئاً لا يحدث، كلهم منتحلو شخصية.

«قتل شخص جريمة، إبادة شعب إحصاء»، هذه مقولة منسوبة إلى هتلر، الشخص ذاته الذي لا يزال بعض هذه المؤسسات يلاحق من كان معه، حتى ولو لم يكن من المقرّبين. المنظمات الدولية تلاحقهم لتضعهم تحت قوس عدالتها، ولم ولن يُشفَع لمن يُحاكم أي شيء، مرضه أو عمره المتقدّم جداً، لا شيء إطلاقاً، ففي قاموس هذه المنظمات، بعض «الجرائم» لا يسقط بالتقادم، كالمحرقة مثلاً. في هذا القاموس، «النازية» مفردة سحرية وضرورية لسير الأعمال، تماماً كما «الهولوكوست» ومعتقلات التعذيب إبّان الحرب العالمية الثانية، أو «حرية الرأي والتعبير» و«تقرير المصير»، وفي هذا القاموس، تسقط قضايا أخرى، ودماء ضحاياها لا تزال تسيل، كما يحدث في قطاع غزة الآن.
تخيّلوا، ماذا لو انتصر هتلر في تلك الحرب؟ لن يكون مستغرباً إطلاقاً القول إنه لو انتصر لكانت مبادئه وأفكاره هي المقاييس والمعايير لكل ما هو «حميد وجميل وإنساني» اليوم، ولربما كان للمجتمع الدولي منظّمات أخرى «مقدّسة»، بتسميات مختلفة، ولاختلف ما يُعْتَبرُ ويُسَّمى اليوم «جرائم ضد الإنسانية»، ذاتها هذه المعايير التي اعتُبِرَت أدلّة دامغة على جرائم بعض من تمّت محاكمتهم.
في الحديث عن الأدلة، ولا أعني تلك التي تأخذ شرعيّتها من كتب القانون، وليس فقط لأنني لست قانونياً، ولكن في استطاعتي القول إنه منذ نحو خمسين يوماً تقريباً، رأينا والعالم كله رأى وسمع عن أكثر من ثلاثة عشر ألف شهيد في غزة، جلّهم من الأطفال والنساء، شهدنا وسمعنا عن أكثر من عشرين ألف مصاب، هؤلاء، أكثر من ثلاثة عشر ألف دليل، وأكثر من عشرين ألف دليل آخر على كل ما قيل، وعلى عدم قيام أي من هذه المنظمات الدولية بدورها المُفتَرض أو الذي تدّعيه.
عذراً شهداء غزة اسماً اسماً، عذراً من الجرحى والمصابين اسماً اسماً، عذراً من أهاليهم وأبنائهم وجيرانهم، عذراً منكم جميعاً، فأنا في هذه المجزرة الإسرائيلية المستمرة، في حرب الإبادة التي يشنّها الكيان عليكم بمشاركة دولٍ تُسَّمى «العالم الأول» ومساندتها، أنا أكتب عنكم بلا أسماء.