لندن | جاءت أقسى الانتقادات لمواقف المفوضية الأوروبية بشأن الحرب على قطاع غزة، من جهة الحكومة الإيرلندية. إذ تنصّلت دبلن، سريعاً، من استعراضات رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لايين، ورئيسة البرلمان الأوروبي، روبيرتا ميتسولا، في دعم إسرائيل، ورفضت وزارة خارجيتها، علناً، تصريحات - تمّ التراجع رسمياً عنها لاحقاً - كان أدلى بها أوليفر فارهيلي، مفوّض العلاقات مع الدول المجاورة للاتحاد الأوروبي عبر صفحته على موقع «إكس»، قال فيها إن التكتّل سينفّذ وقفاً كليّاً للمساعدات التنموية التي تتلقّاها جهات فلسطينية من المفوضية. وفي المداولات حول غزة قبل قمّة الاتحاد الأخيرة في بروكسل، نهاية تشرين الأول الماضي، وخلالها، ضغط الإيرلنديون من أجل تبنّي إعلان نهائي يتضمّن دعوة إلى وقف إطلاق النار. وفي الأمم المتحدة، كانت إيرلندا من الدول التي صوّتت لمصلحة قرار (غير ملزم) بوقف إطلاق النار في غزة، كانت تقدّمت به الحكومة الأردنية إلى الجمعية العامة. والواقع أن هذه المواقف الرسمية المتقدّمة لدبلن، في التمايز عن مجمل توجّهات الكتلة الأوروبية تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي، ليست مستغرَبة بالنظر إلى التماهي التاريخي العميق على المستوى الشعبي في إيرلندا مع النضال الفلسطيني، وعلاقات التضامن الكفاحي الوثيقة في مرحلة الثورة الفلسطينية بين المنظّمات الفدائية اليسارية و«الجيش الجمهوري الإيرلندي». ولا تكاد تخلو جدارية في أحياء بلفاست من رسوم تربط مقاومة الشعبَين الفلسطيني والإيرلندي، فيما تبدو مألوفة مشاهدة الأعلام الفلسطينية جنباً إلى جنب مع الأعلام الإيرلندية في كلّ مكان، حتى على مباني البلديات أحياناً في جميع أنحاء الجمهورية، وحتماً في المسيرات الشعبية الأسبوعية الضخمة المؤيّدة للفلسطينيين، والتي تشهدها العاصمة الإيرلندية ومدن أخرى، منذ بداية أكتوبر.
ودائماً ما انعكست هذه الروح على مواقف النُخب الحاكمة في البلاد؛ إذ عارضت الحكومات الإيرلندية المتعاقبة الضمّ المنهجي للأراضي الفلسطينية، وأدانت القمع الذي يتعرّض له الفلسطينيون في الأراضي المحتلّة. كما من المعروف أن دبلن كانت أوّل عاصمة أوروبية تعترف بـ«منظّمة التحرير الفلسطينية» (1980)، وهي استقبلت الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، في مناسبات عدّة في تسعينيات القرن العشرين، لعقد مباحثات حول سبل التعاون الكفيلة بثني إسرائيل عن تعنّتها في ما يتعلّق بـ«حلّ الدولتين». وفي عام 1999، فاجأ بيرتي أهيرن، رئيس الوزراء الإيرلندي آنذاك، العالم عندما زار غزة، وأجرى مباحثات مع ممثّلي «منظّمة التحرير»، قبل أن يعود مباشرة إلى إيرلندا من دون التوقّف في تل أبيب.
عارضت الحكومات الإيرلندية المتعاقبة الضمّ المنهجي للأراضي الفلسطينية، وأدانت القمع الذي يتعرّض له الفلسطينيون في الأراضي المحتلّة


وفي العقد الأخير، تمّ التصويت (2014) على اقتراح حكومي للاعتراف رسمياً بفلسطين، وإقامة علاقات ديبلوماسية مع السلطة الفلسطينية. وفي عام 2018، أقرّ مجلس النواب مشروع قانون يحظر استيراد جميع السلع والخدمات التي تنشأ في المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية المحتلّة تحت طائلة الغرامة أو السجن. وفي عام 2021، تمّ تمرير اقتراح من «الحزب القومي الإيرلندي» (شين فين) يدين (الضمّ الفعلي) الذي تمارسه الدولة العبرية للأراضي الفلسطينية، بعدما حصل على تأييد جميع الأحزاب الممثَّلة في البرلمان. وفي أيار من هذا العام، أعلنت الحكومة أنها ستدعم «من حيث المبدأ» مشروع قانون تقدّم به «شين فين» لإجبار صناديق الاستثمار الحكومية على بيع حيازاتها في أيّ شركات ناشطة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وفق القوائم التي تصدرها الأمم المتحدة.
لكن التدقيق في هذه التحرّكات الرسمية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي والداعمة لحقوق الفلسطينيين، يُظهر مسافة شاسعة لا يمكن جسْرها بين الخطاب العالي اللهجة للمسؤولين الإيرلنديين وبعض مواقفهم المخصّصة للاستهلاك المحلّي من جهة، والواقع العملي لإجراءات الحكومة، من جهة أخرى. إذ، وعلى رغم تبادل التمثيل الديبلوماسي مع السلطة الفلسطينية، فإن قرار الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين لم ينفّذ إلى الآن، وهو ما برّرته الخارجية الإيرلندية بالقول إنها ماضية في خطوتها التي لن تتحقّق إلّا بعد «تمكين السلطة الفلسطينية من السيطرة على أراضيها». كذلك، علّقت الحكومة الحالية في دبلن العمل بقانون حظر استيراد السلع والخدمات التي تنتجها المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلّة بعد أقلّ من عامَين على اعتماده. كما أن أيّ إجراءات عملية لم تُتّخذ لتبنّي اقتراح إجبار صناديق الاستثمار الحكومية على بيع حيازاتها في الشركات العاملة في المناطق الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي.
ويُضاف إلى ما تَقدّم، أن تسعة من نواب الجمهورية في البرلمان الأوروبي، صوّتوا لمصلحة قرار دان الأعمال «الإرهابية» التي نفّذتها حركة «حماس»، وكرّر لازمة «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، ودعا إلى تنفيذ «هدن إنسانية» - بدلاً من وقف تامّ لإطلاق النار -، بينما عارض القرار أربعة نواب فقط، هم: كريس ماكمانوس (شين فين)، كلير دالي (مستقلّة ذات توجهات يسارية)، ميك ولاس (تحالف المستقلّين من أجل التغيير)، ولوك مينغ فلاناغان (مستقل). لكن القواعد الشعبية لـ«شين فين»، الحزب ذي التاريخ الثوري العريق، تبدو غير قادرة على تفهّم مواقف قيادة الحزب ممثّلةً بماري لو ماكدونالد، التي حاولت تمويه مواقفها المنحازة إلى إسرائيل، عبر استضافة ممثّلة السلطة الفلسطينية لدى دبلن، جيلان عبد المجيد، واحتضانها إيّاها بحرارة أمام مؤتمر الحزب الأخير، في مقابل استمرارها في التأكيد أنها لن تحيد عن الإدانات الرسمية لـ«حماس»، وإصرارها على وصف هجوم السابع من أكتوبر بأنه «مروّع حقاً»، وإدانتها ما سمّته «استهداف» المقاومة الفلسطينية لـ«المدنيين»، وأسْرها «رهائن» منهم.
لكن قيادة الحزب اضطرّت، لاحقاً، وتحت ضغوط القواعد، إلى إطلاق تصريحات دعت فيها إلى طرد السفيرة الإسرائيلية من دبلن، ودعم جهود «المقاطعة وسحب الاستثمارات»، وإحالة إسرائيل إلى «المحكمة الجنائية الدولية». إلّا أنه لدى مناقشة الموقف الرسمي للجمهورية في شأن الأحداث في غزة، وفق مشروع قرار تقدّمت به الحكومة للبرلمان، بدا جليّاً أن «شين فين» لم يدعم اقتراح «حركة الناس قبل الأرباح» اليسارية، إدخال تعديلات على مشروع القرار الحكومي، تضمّنت الدعوة إلى طرد السفيرة الإسرائيلية، والمطالبة باستقالة فون دير لايين، وإحالة إسرائيل ورئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، إلى «المحكمة الجنائية الدولية»، وإنهاء الحصار والاحتلال، وتفكيك جميع المستوطنات غير القانونية، وإنهاء سياسات الفصل العنصري الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين، ودعم «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات». ومكّن ذلك الحكومة من تمرير قرارها متضمّناً إدانة لطرف واحد: المقاومة الفلسطينية، مع رجاء لدولة الاحتلال بأن تتصرّف «بروح إنسانية»، وتشديد على ضرورة أن يتماشى «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع مقتضيات القانون الدولي». ويفسّر مطّلعون مواقف قيادة «شين فين» المزدوجة تلك، بحرص ماكدونالد على تقديم نفسها كشخصيّة مقبولة، استباقاً لاحتمال فوز حزبها في الانتخابات العامة المقبلة (2024)، وتزايد فرص تولّيه تشكيل حكومة.