غزة | لم يكد وقف إطلاق النار يدخل حيّز التنفيذ، وتمرّ ثلاثون دقيقة على انطلاقه عند السابعة من صباح أمس، حتى اعترت الصدمة وجوه الآلاف من الأهالي، الذين هالهم حجم الخراب الذي لم يشهدوا مثيلاً له منذ 75 عاماً. هذه هي الحال مثلاً في مخيم جباليا الذي اكتسى بالرماد، وأضحت منازله ومربّعاته السكنية قبوراً تضمّ المئات من الشهداء. حتى قبل ليلة وقف إطلاق النار، كان للمخيم وجهٌ آخر، لكن في تلك الليلة تحديداً، استيقظ أهالي مناطق الفالوجا والسكة وتل الزعتر ومشروع بيت لاهيا، على وقع تدمير الطائرات الحربية الإسرائيلية أكثر من مئة بيت هناك. على أن ما يهوّن المشهد قليلاً أن ثمّة مساحات عمرانية لم يطاولها القصف، بين كلّ مربّع سكني مقصوف وآخر.وفيما تتبدّى الكارثة الكبرى في تدمير مدن سكنية صغيرة وأحياء كاملة، ظلّت تلك المناطق طوال مدّة الحرب، مخلاة من الأهالي، الذين سمعوا طوال أكثر من 45 يوماً، حكايات لم يحسنوا رسم صورة ذهنية لها، عن حجم القصف الذي تعرّضت له مناطقهم، قبل أن يعاينوا الخراب الرهيب بأنفسهم. مدينة الشيخ زايد شرقي مدينة بيت لاهيا، والتي تتميّز ببنائها العمراني الحديث، وافتُتحت في عام 2004، أضحت مدينة أشباح كبرى. أكثر من ثمانين برجاً سكنياً وسوقاً تجارياً، فضلاً عن مسجد المدينة الذي يشكّل التحفة العمرانية الأجمل في شمال القطاع، دُمّرت تماماً، فيما لم يسلم برج سكني واحد من التخريب المدروس. أمّا المباني التي نجت من قنابل الـ«إف 16»، فخرّبتها قذائف المدفعية، بينما المسجد جرى تفخيخ أعمدته الكبيرة وتفجيرها. وكذلك، الشوارع والنظام الكهربائي وشبكة المياه والصرف الصحي... كلّ شيء تمّ تدميره تماماً.
أكثر من عشر ساعات من التجوّل في أحياء شمال ومدينة غزة، والدمار على مدّ البصر


أيضاً، تعرّضت ثلاث مدن أخرى، هي العودة غربي مدينة بيت حانون، والندى غربي عزبة بيت حانون، وأبراج الإسراء شمال بيت لاهيا، للتدمير نفسه، حيث لم تسلم أيّ وحدة سكنية فيها من التخريب الممنهج والمهول. والمشهد ذاته يتكرّر في أحياء السكة وشعشاعة ومدينة بيت حانون ومشروع بيت لاهيا والصفطاوي والجلاء والشيخ رضوان والنصر والشاطئ. أمّا في مستشفى «الإندونيسي» الذي داهمته الدبابات الإسرائيلية في تمام الساعة الثانية من فجر ليلة الخميس - الجمعة، فليس ثمّة ما يمكن أن تراه، سوى جثامين الشهداء الملقاة في مناطق المستشفى كافة. يروي الدكتور منير البرش الذي خرج من مستشفى «الشفاء» عقب حصاره، إلى «الإندونيسي» حيث عايش حصاراً آخر فيه، في حديث إلى «الأخبار» تفاصيل لحظات الاقتحام الرهيبة. يقول: «بدأت الدبابات بقصف بوابات المستشفى، ثمّ أرسلوا العشرات من طائرات الدرونز المسلّحة بالرصاص، وتنقّلت تلك في باحة المستشفى وممرّاته، ثمّ داهمت الدبابات الباحة بغرض التخريب. قتلوا ثلاثة من المرضى واعتقلوا آخرين، ثمّ غادروا»، ويلفت إلى أن «أكثر من 400 بين مريض ونازح وأفراد طاقم طبي عاشوا ساعات عصيبة»، مؤكداً أنه «لا أهداف عسكرية سوى إخراج المستشفى عن الخدمة».
أكثر من عشر ساعات من التجوّل في أحياء شمال ومدينة غزة، والدمار على مدّ البصر. مقوّمات البقاء في تلك المناطق تضاءلت إلى الحدّ الأدنى. يمكنك أن تفهم سريعاً أن جيش العدوّ تحوّل إلى ما يشبه عصابات مستوطني «تدفيع الثمن» التي تنشط في أحياء الضفة الغربية. مع ذلك، وعلى الرغم من أن الغزيين كافة دفعوا ثمناً مريعاً في هذه الحرب، وأنهم سيتناقلون جيلاً بعد جيل هول ما عايشوه في تشرينَي الأول والثاني من عام 2023، إلّا أن كيّ الوعي و»التغيير الثقافي» اللذين يتطلّع إليهما العدوّ في القطاع لا يبدوان متحقّقين، ولو كرهت إسرائيل هذه الحقيقة.