من المفارقات العجيبة، خوض إسرائيل حرب غزة تحت شعار «وجود لا حدود»، فيما يبدو خطاب المقاومة الفلسطينية ميّالاً إلى وصفها بحرب «تحريك لا تحرير». وتستخدم هذه المقالة تلك المصطلحات بعيداً عمّا علق بها من مواقف سياسية.
أولاً: 1937 - 1948: إسرائيل وعقيدة حروب الوجود
ليس صحيحاً القول إن حرب غزة 2023، هي المعركة الأولى التي ترفع فيها إسرائيل شعار «المعركة الوجودية». فقد خاض كيان الاحتلال حروبه ضد العرب في أعوام: 1948، 1956، 1967 و1973 تحت شعار جذري: «إما نحن أو هم»؛ إما طرد الفلسطينيين من أراضيهم وإما لا مكان لليهود في حيفا ويافا واللّد؛ إما إيقاف طموحات جمال عبد الناصر، الوحدوية والاستقلالية، وإما سترمينا دول الطوق، المدعومة بالبترول، بقيادته، في البحر، في حال تحقّقت وحدة، من نوع ما، للعرب.

ثانياً: 1982 - 2022: حروب الحدود الاستباقية
يمكن تسمية الحروب خلال تلك الفترة، بمعارك «الحدود». فلم يرفع الإسرائيليون فيها مقولات الوجود: «نكون أو لا نكون». تمثّلت غايات الحروب الاستباقية، التي لم تتوقف طوال هذه الحقبة، في تثبيت أركان الدولة العبرية على كامل التراب الفلسطيني، أو ما أمكن منه، وتوسيع حدود الكيان «الوقائية» (شرائط أمنية)، وإخماد المقاومة، أو «قصّ عشبها»، وصولاً إلى فرض الاحتلال نفسه دولة كبرى في الشرق الأوسط.

ثالثاً: العرب... من خطاب الوجود إلى التسووي إلى التطبيعي
خاض العرب حروبهم الأولى مع إسرائيل رافضين الاعتراف بها دولة شرعية، فهي كيان احتلالي استيطاني. وبعد نكسة 1967، تحوّل النظام العربي إلى أطروحة الحدود، التي عنت الإقرار بالدولة العبرية، رغم اللاءات الثلاث التي أعلنتها قمة الخرطوم: «لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض»؛ فوقّعت مصر «معاهدة كامب ديفيد» (1979)، واعترفت «منظمة التحرير الفلسطينية» بالدولة العبرية (1988). وقبل عقد ونصف عقد، على الأقل، بدأت قيادات «حماس» تعلن قبولها إقامة دولة على حدود 1967. في السنوات الأخيرة، لم يعد الموضوع الفلسطيني محل اعتبار الرسميين العرب. وظهر «حل الدولتين» وكأنه خطة أميركية لمنح إسرائيل الوقت والمسوّغ والغطاء لابتلاع ما أمكنها من أرض فلسطينية، فيما يوحي التطبيع بتصفية القضية، وإدماج إسرائيل في المنطقة، حتى في ظل الخلاف حول حدودها، وهويتها: يهودية فحسب، أم دولة لجميع مواطنيها بمن فيهم العرب.

رابعاً: تموضع اتفاقيات أسلو
أين نضع «اتفاقيات أوسلو»، الموقّعة عام 1993، من المنظور الصهيوني؟ هل ضمن نظرية الحدود، أي بذل الجهد للتعاطي مع الآخر بما هو واقع حي يمشي على رجلين، أم في إطار عقيدة الوجود: أي العمل على إفناء القضية الفلسطينية، ما دام يستحيل إفناء الفلسطينيين والعرب؟ بالنظر إلى الديموغرافيا الفلسطينية والمحيط العربي الكبير، عقدت إسرائيل اتفاقيات التسوية، أملاً في إلهاء الفلسطينيين بحكم ذاتي محكم الإغلاق، لا يخرجون من قعره. إنه فخّ ينتج بالضرورة دائرة مفرغة من التوترات التي لا تنتهي. ذلك لا يمنع من القول إن الصيغة التي تم التوصل إليها، كانت موقفاً وسطاً بين المنظورين، في ظل تأرجح الصهاينة وحيرتهم في كيفية التعامل مع الفلسطينيين العنيدين. فقد اتضح أنه ليس من السهولة حسم التحدي بالقوة، حتى في ظل عقد التسعينيات الصعب على العرب. وبالنسبة إلى الغرب، قد يكون في مصلحته استمرار نزيف المنطقة، بديمومة الصراع.

خامساً: «7 أكتوبر»: عودة مقولات «النصر أو القبر» إسرائيلياً
بعد السابع من تشرين الأول الماضي، عادت مقولات الحرب الوجودية: «النصر أو القبر»، لتهيمن على الخطاب الصهيوني، بعد نجاح حركة «حماس» في السيطرة على قواعد عسكرية في «غلاف غزة»، واختطاف جنود وضباط من ثكناتهم الحديثة، وما عناه ذلك من فشل مخابراتي وعسكري مريع، ودلالات مستقبلية على احتمال وقوع هجوم آخر، قد يأتي من غزة أو الضفة أو جنوب لبنان أو الجولان، أو منها جميعاً، في وقت واحد، ويعرّض الكيان لهزيمة ماحقة.
الحرب الراهنة نتاج قلق مضاعف على مصير المشروع الغربي في المنطقة، مع تراجع إسرائيل إلى أقلّ من حدود السادس من حزيران، وفشلها في تكريس نفسها سلطة أمر واقع في سيناء، ثم خسارتها الأراضي التي احتلتها في لبنان تحت وقع ضربات «حزب الله»، وانسحابها من غزة عام 2005، تحت ضغط الكلف العالية لبقائها في الجيب المحاصر، أي خسارتها الشريطين الحدوديين الأمنيين على الجبهتين الشمالية (لبنان) والجنوبية (غزة). هي باتت الآن تحارب على «أراضيها» المعترف بها دولياً، قوى تأتلف في «محور المقاومة»، لا تأخذ لبَّها مقولات الغرب الفارغة عن النضال السلمي لاسترجاع الأرض، والذود عن العرض.

سادساً: اضرب العماليق
يستند نتنياهو في تنظيره لهذه الحرب، إلى قصة «العماليق»، العرب والعجم، الواردة في التوراة، مخاطباً جنوده: «فالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا». (سفر صيموئيل الأول). إذاً، فإن الهجوم الإسرائيلي الدموي الراهن يستند إلى مقولة وجودية، واعتقاد قادة الكيان بضرورة إحداث نكبة فلسطينية ثانية، في غزة، على الأقل، وإلا فلا أمن لإسرائيل، التي قد تجد نفسها بعد حين، وهي تقترب من السنة الثمانين الحرجة، تحارب جيوشاً مقاومة على ضواحي القدس.

سابعاً: «حماس»... خطاب تحريك
حين فجّرت «حماس» الطوفان، قالت إن هدفها منع تدنيس المسجد الأقصى وتقسيمه، وحماية القدس، وإطلاق سراح الأسرى في سجون الاحتلال، وفك الحصار عن غزة، وهي أهداف تراها واقعية. ولم تتحدّث عن تحرير فلسطين، ثم نأت بنفسها عن قتل المدنيين من المستوطنين. لاحقاً توسّع الخطاب «الحمساوي»، وتحدّث رئيس المكتب السياسي، إسماعيل هنية، في الأول من تشرين الأول، عن «تصور كامل شامل، يبدأ بوقف العدوان، وفتح المعابر، ثم صفقة لتبادل الأسرى، وانتهاء بفتح المسار السياسي لقيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس».

ثامناً: «حماس»... من البحر إلى النهر
الخطاب «الحمساوي» موجّه، في جزء منه، إلى المجتمع الدولي البائس، المصدوم من حدث 7 تشرين الأول، والراغب في التعرّف إلى الغايات النهائية لـ«حماس»، وما إن كانت عند مقولاتها القديمة بالحديث عن أراضي 1967، أو غيّرتها نحو شعار من «البحر إلى النهر» المرفوض من النظام العربي. الخطاب «الحمساوي»، راهناً، لا يرفع شعارات تحرير فلسطين التاريخية، فيما لا تُتوقّع انطلاقة حقيقية لحل الدولتين، الذي أيّدته «حماس»، لأسباب شتى، من بينها دعوة الدول العربية، إلى المساعدة في الوصول إلى صيغة تسووية «معتدلة». وحتى «محور المقاومة»، يبدو أنه لا يزال يعد العدّة لخوض غمار الحرب الكبرى، التي تنتهي بالصلاة في المسجد الأقصى، وتحرير القدس، في ظل القناعة بأن تحرير فلسطين يقتضي تحرير ملفها من قبضة أميركا.