القدس | منذ انطلاق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عقب عملية «طوفان الأقصى»، لم يَسلم المسجد الأقصى ومحيطه من الحملة الانتقامية التي أطلقها العدو ضدّ الفلسطينيين وممتلكاتهم ومقدّساتهم في الأراضي المحتلّة كافة. حملةٌ جعلت المسجد، على مدار أيام الأسبوع، شبه خالٍ من مصلّيه ومرابطيه، فيما أعداد هؤلاء، في أيام الجمعة، لا تتجاوز الخمسة آلاف، بعدما كانت تربو عن خمسين ألفاً، وفقاً لما يؤكده، لـ«الأخبار»، أحد مساعدي المدير العام لأوقاف القدس، الذي مُنع من التصريح باسمه بعد صدور تعليمات رسمية بمنع الحديث عن كلّ ما يتعرّض له «الأقصى» منذ السابع من أكتوبر، حفاظاً على ما تبقّى من سلطة وصلاحيات لإدارة الأوقاف الإسلامية.وليس بعيداً من الحرم القدسي، حيث حيّ الجالية الأفريقية الملاصق تماماً للمسجد الأقصى، يمعن جنود الاحتلال المتمترسون عند باب الناظر (أحد أبواب الحرم)، في التنكيل بالأهالي على نحوٍ بات لا يُطاق. وفي هذا الصدد، يقول سليمان قوس، الناشط الحقوقي وأحد أهالي الحيّ، في حديث إلى «الأخبار»، إنه «مع استبدال عناصر الشرطة السابقين، بعناصر من وحدات ياسام المشهورة بعنفها في التعامل مع المقدسيّين، سُجّلت عمليات قمع وتنكيل واعتقال عديدة في صفوف شبان الجالية، إضافةً إلى منع كبار السنّ والشبان أيضاً من دخول الأقصى، رغم أن منازل هؤلاء ملاصقة تماماً لباب الناظر». ويضيف أنه «منذ السابع من أكتوبر، يُمنع الشبان والأهالي من التواجد أمام منازلهم في الحيّ، فيما بعض المنازل دوهمت ودُمّر أثاثها، كما حصل مع عائلة البشيتي التي تعرّض أحد أبنائها، وهو أسير محرّر، للاعتقال والضرب، ومصادرة مركبته البالغ ثمنها 50 ألف شيكل، بينما تمّت مصادرة مصاغ ذهبي من والدته وشقيقته، بدعوى تلقّيه أموالاً من السلطة الفلسطينية».
ما يعانيه القاطنون في حيّ الجالية الأفريقية الملاصق تماماً للمسجد الأقصى، بات أمراً لا يُحتمل بسبب تنكيل الجنود بالأهالي


وفي حيّ باب السلسلة، أحد أبواب «الأقصى»، وكذلك في سوق القطانين الذي كان يعجّ يوميّاً بالناس، بخاصة أيام الجمعة، أَغلقت المحالّ التجارية أبوابها، بعدما وضع الجنود حواجز تفتيش حديدية على الأبواب هناك، مانعين المواطنين من الوصول إلى الحرم القدسي أو التنقّل داخل أحياء البلدة القديمة. وفي هذا الحيّ، استوقفنا عماد أبو خديجة، صاحب «خان أبو خديجة»، ليحدّثنا عن قصّة المظلّة المرفوعة على باب محلّه، والتي كانت سبباً في فرض مخالفة عليه بقيمة 375 شيكل (150 دولاراً)، رغم أن المحلّ كان في اليوم المذكور مغلقاً. وفي اليوم التالي، حضرت طواقم الضريبة، وعبثت بأدراج المكتب، ولم تعثر سوى على 150 شيكلاً، ولكنها حين كتبت تقريرها ذكرت أنها عثرت على مبلغ 350 شيكلاً. ما حدث، وفقاً لأبو خديجة، إنّما هو جزء من «مسلسل يومي من التنكيل والعقوبات التي تُفرض على التجّار من دون أيّ مبرّر أو مسوّغ، والتي تزايدت منذ السابع من أكتوبر»، علماً أن الرجل كان قد تعرّض قَبل الحرب للاحتجاز من قِبَل إحدى المجنّدات الإثيوبيات، والتي أطلقت ضدّه شتائم وإهانات، من دون مبرّر.

حملات اعتقال وتضييق
منذ السابع من أكتوبر، نفّذت قوات الاحتلال حملات اعتقال مكثّفة وواسعة النطاق في مدينة القدس المحتلّة، طالت المئات من الشبان. وبحسب مصدر في «مركز معلومات وادي حلوة»، تحدّث إلى «الأخبار»، فإن شهر تشرين الأول، وتحديداً في المدة الواقعة ما بين السابع منه وحتى نهايته، سجّل 437 حالة اعتقال، في حين سُجِّلت، منذ الأول من تشرين الثاني الجاري، 230 حالة اعتقال، تمّ تحويل عدد من أصحابها إلى الاعتقال الإداري، على خلفية الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، وآخر هؤلاء، الصحافيان مي العزة وعبد العفو زغير. أمّا عشرات الغزّيين الذين كانوا يرافقون أبناءهم المرضى في مستشفيات القدس، بخاصة مستشفى «المقاصد»، فقد وُضعوا منذ ذلك الحين في إقامة جبرية غير معلَنة داخل أروقة المشافي، وفي نزل فندق صغير، في حين تمّ ترحيل أكثر من أربعين منهم إلى بلدة أبو ديس في انتظار ترحيلهم النهائي إلى مناطق سكنهم في القطاع، تماماً كما فعل الاحتلال مع مئات العمّال الغزّيين الذين تمّ تجميعهم من أماكن عملهم داخل إسرائيل، وتعريضهم أثناء ترحيلهم وأثناء احتجازهم لأسوأ أنواع التنكيل من قِبَل جنود العدو الذين التقطوا صوراً لعدد منهم شبه عراة، وخلفهم العلم الإسرائيلي.
وفي مستشفى «المقاصد»، بحثنا عن عائلة الطفلَين الرضيعَين لين ومحمد اللذين توفّيا متأثّرَين بأمراض القلب، ودُفنا بصمت في بلدة أبو ديس قبل نحو أسبوعين، بعدما تعذّر نقلهما إلى القطاع ودفْنهما فيه بسبب الحرب المستمرّة هناك. ووفقاً لمصادر في المستشفى تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن «مَن تبقّى من الغزّيين المرضى، لا يتجاوز عددهم هذه الأيام الـ28 مريضاً، يرافقهم 16 من ذويهم». أمّا ذوو الغزّيين القاطنون في القدس، فيرقبون مصائر عائلاتهم في القطاع، علماً أن منهم مَن تمكّن من الاتصال بأقاربه، فيما آخرون لم يستطيعوا ذلك، لا بل فقدوا عدداً من أهاليهم، كما هو حال والدة أحد المرضى من عائلة اسليم من مخيم البريج، والتي تمضي كلّ وقتها وهي تتابع نشرات الأخبار على القنوات الفضائية، علّها تسمع خبراً يطمئنها على شقيقها وأبنائه.