في مقابل الضرر الذي ألحقه العدوان الإسرائيلي على غزة بمكانة الولايات المتحدة، وصورتها على الساحة العالمية، تمكّنت الصين، من جهتها، وعبر سلسلة مواقف وتحركات - ابتداءً من استخدامها حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضدّ مشروع قرار أميركي يشرّع في متنه «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، الشهر الماضي، وصولاً إلى الإدانات المتكرّرة، وتحديداً تلك ذات الطابع «الإنساني والأخلاقي» للعدوان على غزة -، من كسب ثقة أكبر لدى الدول التي تبحث عن وضع حدّ للانتهاكات الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين. واستناداً إلى ذلك، اختار مسؤولون من خمس دول عربية وإسلامية، هي: السعودية، الأردن، مصر، فلسطين وإندونيسيا، إضافة إلى الأمين العام لـ«منظمة التعاون الإسلامي»، بكين، وجهةً أولى لهم، خلال ما قالوا إنها «جولة دولية للوساطة»، الأسبوع الماضي، حيث التقوا وزير الخارجية الصيني، وانغ يي. وسبقت زيارتُهم هذه توجّهَ الأخير، هذا الأسبوع، إلى نيويورك، إذ سيرأس اجتماعاً لمجلس الأمن الدولي حول الحرب في قطاع غزة، وفق ما أعلنت وزارة الخارجية الصينية أمس، علماً أنّه منذ ترأسها الدورة الحالية للمجلس، بداية الشهر الجاري، أعلنت الصين أنّ أولويتها القصوى تتمثّل في «التوصّل إلى وقف فوري وشامل لإطلاق النار في غزة». والمواقف الصينية، التي اتّسقت إلى حدٍّ كبير مع تلك الروسية، وغيرها ممّا صدر عن دول الجنوب، لاقت، أخيراً، ترحيباً لدى «حماس» نفسها، إذ أشاد رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية، في خطاب له، بأهمية «استمرار الجهود العربية والإسلامية وجهود الدول الصديقة، وفي مقدّمتها روسيا والصين، لتمكين شعبنا من إنجاز تطلّعاته في الحرية والعودة والاستقلال وضمان عدم تهرّب الاحتلال من استحقاقات هذه المعركة (...)»، في وقت تسعى فيه بكين إلى إثبات أنها «وسيط موثوق للسلام» في العالم بشكل عام، وفي الشرق الأوسط بشكل خاص.
ولذلك، حرص وانغ يي، في تقرير صادر عن الخارجية الصينية في أعقاب لقائه مع المسؤولين المذكورين أعلاه، على الإشارة إلى أن اختيار أعضاء الوفد المشترك، بكين، كمحطّة أولى لهم، يدلّ على «ثقتهم التامّة بالصين»، مشدّداً على أنّ أيّ «ترتيب يتعلّق بمستقبل فلسطين ومصيرها لا بدّ من أن يكون بموافقة الشعب الفلسطيني، مع مراعاة الهموم المشروعة لدول المنطقة. وأيّ حلّ للوضع الراهن يجب أن لا ينحرف عن (حلّ الدولتين)، ويجب أن يخدم السلام والاستقرار في المنطقة». ومن جهتهم، أشار وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية، المشاركون في الاجتماع، إلى أنّ «الكارثة الإنسانية في غزة لا تزال مستمرّة»، داعين «المجتمع الدولي إلى أن يتّخذ خطوات مسؤولة في أسرع وقت ممكن، ويدفع إلى وقف إطلاق النار ومنع القتال فوراً، ويضمن إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة بشكل كاف، ويحمي المدنيين الفلسطينيين الأبرياء، ويمنع التهجير القسري لسكّان غزة».
الضغوط التي تمارسها الصين، سواء في مجلس الأمن أو خارجه، تندرج في إطار استراتيجية «الضغط على الولايات المتحدة»، قبل إسرائيل


وشمل «التحرّك الصيني» في اتجاه الدفع نحو وقف شامل للعدوان على غزة، مشاركة الرئيس شي جين بينغ، في «القمة الافتراضية الاستثنائية» التي عقدتها مجموعة «بريكس»، بدعوة من جنوب أفريقيا، لبحث «الحرب على غزة»، في الـ21 من الشهر الجاري، والتي أعاد فيها شي التأكيد أنّ «السبب الجذري لِما وصلت إليه الأوضاع الفلسطينية - الإسرائيلية، اليوم، يرجع إلى تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، منذ زمن طويل»، مشيراً إلى أنّ «الصين، بصفتها رئيساً دورياً لـ(مجلس الأمن الدولي)، دفعت المجلس نحو اعتماد القرار الذي يطالب بتمديد الهدنة الإنسانية، والمدّة الزمنية للممرّات الإنسانية وحماية المدنيين، وتنفيذ عمليات الإغاثة الإنسانية وغيرها». على أنّ «الجمهورية الشعبية»، وطبقاً لما عبّر عنه عدد من الديبلوماسيين الصينيين، في غير محطّة، تعتبر أنّ الضغوط التي تمارسها، سواءً في مجلس الأمن أو خارجه، تندرج في إطار استراتيجية «الضغط على الولايات المتحدة»، قبل إسرائيل، وقبل محاولة التوسّط مباشرة في الحرب، ما سيجبر واشنطن على التراجع تدريجياً عن دعمها لتل أبيب، ويجعل الأخيرة تلقائياً تتراجع عن عدوانها على الفلسطينيين.
وبالفعل، يمكن بوضوح تتبّع مسار التحوّل في «لهجة» الإدارة الأميركية، نتيجة الضغوط الخارجية والداخلية الكبيرة المفروضة عليها. وفي هذا السياق، نقلت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، الأسبوع الحالي، عن مسؤول أميركي كبير في إدارة جو بايدن، قوله إنّه «بداية هذا الشهر، طلب نحو 20 موظّفاً في البيت الأبيض لقاء كبار مستشاري الرئيس الأميركي، لنقاش الحرب في غزة»، بعدما تركت الأخيرة «تأثيراً أكبر من أيّ قضيّة أخرى» عليه طوال ولايته الرئاسية. وفي حين يَظهر الانقسام داخل البيت الأبيض، للوهلة الأولى، على أنه بين كبار مساعدي بايدن القدامى ومجموعة من الموظفين الأصغر سناً من خلفيات مختلفة، إلا أنّه «حتى كبار المستشارين في الإدارة»، قالوا إنهم يدركون أن الحرب أضرّت بـ«مكانة أميركا العالمية»، وأصبحت تُحمّلها «الكثير من الأعباء». وعليه، اتبع بايدن، وفقاً للمصدر نفسه، نهجاً أكثر صرامة تجاه إسرائيل، في الأسابيع الأخيرة، ووجّه انتقادات «مباشرة» إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. ويردف التقرير أنّ المسؤولين الأميركيين يستغلّون الهدنة لحثّ إسرائيل على جعل العملية التي «تنوي شنها، مستقبلاً، في جنوب غزة» أكثر «توجهاً» وأقلّ «فتكاً»، وسط انتقادات مستجدّة من عدد متزايد من الخبراء لموقف بايدن «الأوّلي» من الحرب على غزة، باعتبار أنّه لو «أَظهر دعماً أقلّ لإسرائيل»، فإنّ واشنطن كانت ستملك «مجالاً أكبر للمناورة»، بدلاً من الالتصاق بالاستراتيجية الحالية، التي «تسبّب لها الكثير من المشكلات».