أَظهر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة تراجُع التأييد الشعبي لكيان الاحتلال في الدول الغربية، وسط تداول مكثّف لمشاهد المجازر بحقّ الفلسطينيين عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. فبعد شيوع أجواء من «التعاطف» مع إسرائيل في الأيام الأولى التي تلت عملية «طوفان الأقصى»، ولّدت حملة القصف العشوائي العنيف على مختلف مناطق القطاع، وما تبعها من توغّل بري، أجواء تضامنية غير مسبوقة مع الشعب الفلسطيني. وفي مقابل تلك «الانعطافة» السريعة، التي تحوّلت نحو تسيير تظاهرات احتجاجية تنديداً بالوحشية الإسرائيلية، عكس أداء حكومات الغرب، وفي طليعتها حكومات الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، انفصاماَ واضحاً بين «القيَم» المزعومة و»المصالح»، تجلّى في مواصلتها رفد إسرائيل بالأسلحة لأسباب استراتيجية، من جهة، ومخاطرتها بتحمّل التبعات السياسية والقانونية الناجمة عن مواصلة ذلك الدعم، على خلفية انتهاكات القوات الإسرائيلية لكلّ الأعراف والمواثيق الدولية، وبخاصة «القانون الدولي الإنساني»، من جهة ثانية.وفيما رفع عدد من المحامين الفرنسيّين دعاوى قضائية، بعضها باسم أفراد عائلات شهداء فلسطينيين، ضدّ حكومتهم على خلفية اتهامها بخرق «معاهدة تجارة الأسلحة» (TCA)، التي وقّعت عليها باريس عام 2014، والتي تُلزم الدولة الموقّعة عليها بمنع تصدير أيّ سلاح يمكن استخدامه لارتكاب أو تسهيل ارتكاب انتهاكات خطيرة لـ»القانون الإنساني الدولي»، أو أيّ جرائم حرب وانتهاكات أخرى لـ»اتفاقية جنيف» لعام 1949، تنوء إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، تحت ضغوط مشابهة، بعد رسالة وجّهتها أكثر من 30 منظمة إغاثية وجمعية حقوقية إلى وزير دفاعه، لويد أوستن، تحثّه فيها على عدم إرسال قذائف من عيار 155 ملم، يطلق عليها خبراء عسكريون تسمية «القذائف الغبية» لافتقارها إلى الدقة التهديفية، إلى إسرائيل.

رسائل سياسية متناقضة
فور إعلان إسرائيل عدوانها على غزة، لم تتردّد إدارة بايدن في تسريع وتيرة شحن المعدات العسكرية إليها، بما شمل صواريخ اعتراضية لنظام «القبة الحديدية»، وذخائر الهجوم المباشر المشترك من طراز «JDAMs»، وهي مجموعة تحوّل الأسلحة غير الموجّهة إلى قنابل موجّهة بالأقمار الاصطناعية، إضافةً إلى ذخائر مختلفة؛ من ضمنها نحو 1800 قذيفة «M-141» الخارقة للتحصينات، وفق ما جاء في وثيقة مسرّبة عن «البنتاغون». وعلى رغم تصاعُد الضغوط الداخلية والخارجية على بايدن، وتنامي الاعتراض الشعبي على هذا الدعم في أوساط الأميركيين والذي لامس حدود الـ 52%، يبدو بايدن أقرب إلى «مكافأة» حكومة بنيامين نتنياهو على موافقتها على «الهدنة»، أقلّه في الوقت الراهن قبل انجلاء آفاق المعركة في غزة، وذلك من خلال اعتزام البيت الأبيض إزالة كلّ أشكال القيود التي تحول دون حرية تصرّف إسرائيل بشتى أنواع الأسلحة والذخائر، المتوافرة ضمن المخزون الاستراتيجي الأميركي، على الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
وبحسب وسائل إعلام أميركية، فقد تمّ تضمين هذا المقترح في نصّ الموازنة التكميلية المرسَلة من جانب الرئاسة إلى مجلس الشيوخ في 20 تشرين الأول الفائت، وقد شدّد نص الوثيقة على أهمية «السماح بنقل جميع أنواع المواد الدفاعية» إلى كيان الاحتلال، خلافاً للقوانين الأميركية السارية التي تشترط توافر «ظروف محدّدة» بموجب قانون «WRSA» أو «المخزون الحربي الاحتياطي على أراضٍ حليفة - فرع إسرائيل»، الذي يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، ويُعنى بأحد أكبر مواقع تخزين المعدّات العسكرية التي كانت قد أقامتها أميركا حول العالم خلال الحرب الباردة. ومن خلال هذه الخطوة، يرمي بايدن إلى أن يعطي إسرائيل الحقّ في استخدام كلّ الأسلحة الأميركية المخزّنة في الأراضي المحتلّة، بما فيها تلك المتقادمة أو الفائضة عن احتياجات الجيش الأميركي، ولا سيما صواريخ جو - أرض من طراز «هيلفاير»، وقذائف مدفعية من عيار 155 ملم، وذلك في موازاة وقف العمل بسقف الإنفاق السنوي المخصّص لتجديد المخزون المشار إليه، والمحدّد بـ 200 مليون دولار، على أن يمتدّ الاستثناء المذكور لعام واحد حصراً، فضلاً عن تقليص الدور الرقابي للكونغرس في هذا الخصوص، وفق ما كشفه موقع «ذي إنترسبت».
إمرار المساعدات العسكرية لإسرائيل لا يزال يواجه عراقيل سياسية تحت قبّة مبنى «الكابيتول»، وسط خلافات بين الحزبين


وفي هذا الإطار، يحذّر جوش بول، الذي سبق أن شغل منصب مدير الشؤون العامة والكونغرس في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية في وزارة الخارجية - المعنيّ بعمليات نقل الأسلحة إلى حلفاء الولايات المتحدة -، قبل أن يقدّم استقالته احتجاجاً على سياسة إدارته حيال حرب غزة، من أنّ «رفع كلّ القيود المفروضة على عمليات النقل إلى إسرائيل، يمكن أن يُلحق ضرراً بمصالح الولايات المتحدة، لما يعنيه من تخفيض مستوى جهوزيتها لخوض صراعات في المنطقة، وزيادة حجم الضغوط في الوقت الحالي على مدى استعدادها وقدرتها على توفير المزيد من الأسلحة لإسرائيل»، فيما يوضح الباحث القانوني في مركز دراسات «Center for Civilians in Conflict»، رامينغ تشابيل، في حديث إلى الموقع، أن ما يدفع به البيت الأبيض «سيقوّض الرقابة والمساءلة بشكل أكبر (على صادرات الأسلحة لإسرائيل)».
بدوره، يشدّد الباحث في «معهد كوينسي للحوكمة الرشيدة» على أن توجّه الإدارة الأميركية الأخير يشكّل «خطوة استثنائية»، في وقت تقود فيه حكومة نتنياهو «هجمات واسعة النطاق على المدنيين، يشكّل بعضها جرائم حرب».
على أن إمرار تلك المساعدات لا يزال يواجه عراقيل سياسية تحت قبة مبنى «الكابيتول»، وسط خلافات بين الحزبين؛ إذ يصر أعضاء الكونغرس من الديموقراطيين على إقرار مشروع قانون يربط ما بين المساعدات العسكرية المراد تقديمها لإسرائيل، وبين ما يماثلها من حزمة دعم عسكري واقتصادي لأوكرانيا بقيمة 60 مليار دولار، وهو مشروع يتّجه رئيس الأكثرية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، لعرضه على التصويت خلال أيام.
في المقابل، يصر الأعضاء الجمهوريون، وتحديداً الجناح المتشدّد المقرّب من الرئيس السابق، دونالد ترامب، على ربط إمرار أيّ مشروع في هذا الخصوص بأوجه الإنفاق المخصّص لضمان أمن الحدود الجنوبية مع المكسيك، وقضايا أخرى، فضلاً عن مطالباتهم بخفض الإنفاق الحكومي على بعض الإدارات، وهو أمر لا يحظى بقبول خصومهم. وانطلاقاً من ذلك، استبعد رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، مايك تورنر، في مقابلة مع شبكة «إن بي سي» الإخبارية، إمرار المزيد من المساعدات العسكرية لإسرائيل في الكونغرس في وقت قريب، مضيفاً أن «إتمام تلك الخطوة بحلول نهاية العام الجاري أمر بالغ الصعوبة».

اعتبارات قانونية
وفي قراءتهم دوافع البيت الأبيض من وراء منح تلك التسهيلات لإسرائيل، يشير خبراء قانونيون إلى وجود خشية لدى الإدارة الأميركية، أسوة بحكومات غربية أخرى، من إمكانية تعرّض مسؤولين حكوميين لملاحقة قانونية أمام المحاكم المحلية والدولية، بتهمة «التواطؤ في جرائم حرب»، وفق المعايير القانونية، وخصوصاً أن نصوصاً تشريعية أميركية توجب فرض رقابة مشدّدة على الاستخدام النهائي للأسلحة المصنّعة والمورّدة من جانب الولايات المتحدة، وبخاصة تلك المصدّرة إلى جهات خارجية، ومنها إسرائيل. وممّا يعزّز هذه المخاوف، استنكار منظمات حقوقية دولية، في مقدّمها منظمة «هيومن رايتس ووتش»، لحزمة المساعدات العسكرية «الطارئة» الإضافية لتل أبيب، والمقدّرة قيمتها بنحو 14.3 مليار دولار. وحذّرت المنظمة، في بيان، من أنّ «عمليات نقل الأسلحة المستقبلية إلى إسرائيل من هذه الدول، من شأنها أن تجعل الدول المورّدة متواطئة في هذه الانتهاكات»، فيما نبّه «مركز السياسة الدولية» إدارة بايدن إلى مغبّة الموافقة على ما وصفه بـ»إطلاق يد إسرائيل من دون قيود في استخدام هذه المساعدات بما ينتهك حقوق الإنسان والقوانين الدولية المنظّمة للنزاعات المسلحة»، داعياً الكونغرس والبيت الأبيض إلى تضمين أحكام ملزمة وقابلة للتنفيذ لمنع استخدام الأسلحة الأميركية المقدمة إلى إسرائيل، بموجب هذه الحزمة، في محاولات تهجير المدنيين الفلسطينيين، أو انتهاك حقوقهم أو احتلال الأراضي الفلسطينية بشكل دائم.
وفي السياق نفسه، نضح مقال نشرته مجلة «فورين أفيرز»، قبل أيام قليلة، بقلم ريان فينوكين، وهو مستشار قانوني سابق في وزارة الخارجية في عهد إدارتَي باراك أوباما ودونالد ترامب، بـ»نفَس تحذيري» مماثل. فقد لفت فينوكين إلى أن تلك المساعدات يمكن أن تجعل القادة الأميركيين شركاء في المسؤولية عن أيّ جرائم حرب يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في حملته ضدّ الفلسطينيين، داعياً إدارة بايدن إلى اتّخاذ خطوات ملموسة لمراقبة كيفية استخدام إسرائيل للأسلحة الأميركية. كما شكّك فينوكين في مدى مراعاة إسرائيل لـ»القانون الدولي الإنساني» والقوانين الأميركية، منبّهاً إلى أنّ هذا الأمر قد ينجم عنه توجيه اتهامات إلى قادة إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، ولا سيما أنّ «المحكمة الجنائية الدولية» أكدت اختصاصها القانوني للتحقيق في الجرائم المرتكبة في غزة.