في خطوة تحاول عبرها ترسيخ حضورها في الشمال السوري بجزأَيه: ذلك الذي تسيطر عليه الفصائل في ريف حلب، والآخر الخاضع لسيطرة «هيئة تحرير الشام» (ذراع «القاعدة» السابق في سوريا) في إدلب، بعثت تركيا بقائد قواتها البرّية، سلجوق بيرقدار أوغلو، لإجراء جولة تفتيش وتفقّد مطوّلة، شملت معظم مناطق انتشار الجيش التركي في ريفَي حلب الشمالي والشرقي، ومناطق شرقي الفرات، بالإضافة إلى إدلب. وأتت هذه الجولة بالتزامن مع حملة تصعيد جوّية ومدفعية جديدة يشنّها الجيش التركي ضدّ «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، طالت محيط بلدة أبو راسين شمال غربي الحسكة، وقرى تل خاتون وملا عباس ومحيط قرية تل زيوان في ريف القامشلي، وقريتَي كركي شامو وتل جهان في ريف القحطانية شمال الحسكة.وفي بيان مقتضب نشرته وزارة الدفاع التركية حول الزيارة التي أجراها بيرقدار، أعادت الوزارة التذكير بمناطق نفوذ تركيا، والتي كانت الأخيرة قد قسّمتها إلى أربع تبعاً لأسماء العمليات العسكرية التي صاحبت قضم كلّ منها، في وقت تمّ فيه حشر إدلب بطريقة غير مباشرة عبر إطلاق اسم عملية عسكرية لم تقُم بها القوات التركية فعلاً في المدينة، وذلك بهدف الالتفاف على طبيعة العلاقة التي تربط أنقرة بـ«هيئة تحرير الشام». كما أعلنت الوزارة، في البيان ذاته، عن حصيلة عملياتها في سوريا بين 15 آب الماضي و23 تشرين الثاني الحالي، مبيّنةً أن «الجنود الأتراك قتلوا ما مجموعه 649 إرهابياً، 606 منهم من أعضاء PKK/KCK-PYD/YPG، و43 منهم من أعضاء تنظيم داعش»، علماً أن أنقرة تستعمل كلمة «إرهابي» في وصف مقاتلي «قسد» ومسلّحي «داعش» على حدٍّ سواء.
وفي التفاصيل، أوضح البيان أن الزيارة شملت كلاً من مناطق: «درع الفرات» و«غصن الزيتون» و«نبع السلام» و«درع الربيع»، علماً أن القوات التركية كانت على مناطق في ريف حلب الشمالي والشرقي عامَي 2016 و2017 ضمن العملية الأولى المذكورة - والتي استهدفت مواقع انتشار تنظيم «داعش» -، قبل أن تُدخلها في إطار اتفاقيات تركية - أميركية، أعفت بموجبها واشنطن، أنقرة، من تبعات قانون العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا (قيصر)، ضمن سلسلة استثناءات من هذه العقوبات شملت معاقل «قسد» أيضاً. أمّا مناطق «غصن الزيتون» و«نبع السلام»، فقضمتها أنقرة بعد طرد «قسد» من عفرين ومواقع في شرقي الفرات، في حين تُطلق اسم «درع الربيع» على المعارك التي خسر فيها جيشها مواقع انتشاره في محيط إدلب، وذلك عندما سيطر الجيش السوري على طريق حلب - دمشق وفتحَه بالقوة عام 2020، الأمر الذي رسم خريطة جديدة لريف إدلب في إطار «اتفاقية سوتشي» التي رعَتها موسكو، وتضمّنت ما يُسمّى «مناطق خفض التصعيد».
بدأت السلطات التركية البحث عن مصادر تمويل تؤمّن الفاتورة الشهرية التي تدفعها للمقاتلين والموظفين في الشمال السوري


وتتزامن زيارة المسؤول العسكري التركي الرفيع إلى الشمال السوري، مع سلسلة جديدة من محاولات لإعادة هيكلة الفصائل، وذلك بغرض «مأسستها» لتصبح على غرار «هيئة تحرير الشام» التي تفرض سيطرتها على إدلب وتقيم فيها «حكومة» تطلق عليها اسم «حكومة إنقاذ»، قامت أخيراً بتوسيع عدد وزاراتها، وإضافة وزارة جديدة للإعلام إليها، بدعم من شخصيات سورية معارضة تقيم في قطر، حضر بعضها حفل افتتاح «الوزارة». وإذ يأتي هذا في وقت ما زالت تعاني فيه مناطق الفصائل في ريف حلب من حالة فوضى عارمة، وسط ضغوط تركية متواصلة لتفعيل دور «الحكومة المؤقّتة» التي تنشط في ريف حلب وتتبع «الائتلاف» المعارض، فقد أُعلن، رسمياً، عن فصيل جديد حمل اسم «حرس الحدود»، يضمّ وفقاً لبيان له نحو ثلاثة آلاف مقاتل يتّبعون شكلياً «وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة»، مَهمّتهم حراسة الحدود التركية، في خطوة تُعاكس ما كان قد دار الحديث عنه في إطار المفاوضات السورية - التركية المباشرة، من إمكانية انتشار الجيش السوري على الشريط الحدودي. ويؤكد كلّ ما تقدّم إصرار أنقرة على الاستمرار في استثمار الشمال السوري الذي يخضع لعملية تتريك متواصلة، بدءاً من فرض اللغة التركية في المناهج الدراسية، وليس انتهاءً بفرض العملة التركية في التعاملات اليومية، واتباع المناطق الشمالية لسلطة الولايات التركية التي تشرف على عمل المجالس المحلية القائمة في تلك المناطق، وعلى عمل الشرطة المدنية، بالتوازي مع الاستمرار في بناء المشاريع السكنية لإعادة توطين اللاجئين السوريين قرب الشريط الحدودي.
وأمام حالة الفوضى الفصائلية، والتململ التركي من عجز الفصائل عن تأسيس هيكلية تؤمّن لها مصادر دخل ذاتية، من شأنها أن تقلّل إلى أدنى حدّ ممكن الفاتورة الشهرية التي تدفعها تركيا للمقاتلين والموظفين في الشمال السوري، بدأت السلطات التركية البحث عن مصادر تمويل أخرى، ولا سيّما بعد سيطرة «هيئة تحرير الشام»، بالتعاون مع فصائل أخرى تابعة لها من بينها «حركة أحرار الشام- القطاع الشمالي»، على أبرز معابر التهريب مع مناطق «قسد»، ما يعني تعطّل أحد أبرز منابع التمويل التي تعتمدها الفصائل. وتَمثّل آخر تلك المصادر البديلة، في فرض رسوم مالية على السوريين ممّن يحملون بطاقة الحماية المؤقتة التركية (الكملك) والراغبين في قضاء إجازة في سوريا، حيث يتعيّن على كلّ منهم دفع مبلغ 200 دولار أميركي عند معبر «باب السلامة» الحدودي، الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة بين السوريين، حاول «الائتلاف» امتصاصها عبر نفي مسؤوليّته ومسؤولية «الحكومة المؤقتة» - التي يفترض أنها تدير هذه المناطق - عنها، والمدافعة بأنها فُرِضت بأمر مباشر من ولاية غازي عنتاب التركية.
وإذ يؤكد ذلك، مجدّداً، كون «المؤقّتة» مجرّد واجهة شكلية لا تتمتّع بأيّ حضور فعلي على الأرض، فهو يأتي في وقت تواصل فيه جماعات عديدة منتشرة في ريف حلب فرض إتاوات على المزارعين والتجار والصناعيين، رغم الحالة الاقتصادية السيئة التي يعيشها السوريون في تلك المناطق، في ظلّ تراجع الدعم الإنساني إلى مستويات غير مسبوقة، إثر انشغال واشنطن وحلفائها في الاتحاد الأوروبي بالحرب الروسية في أوكرانيا، وبدعم إسرائيل في حرب الإبادة التي تشنّها على الفلسطينيين في قطاع غزة. وفي هذا الإطار، حذّر فريق «منسقو استجابة سوريا» من خفض العديد من الوكالات الأممية العاملة في شمال غربي البلاد، مساعداتها إلى النصف مطلع العام المقبل بذريعة نقص التمويل اللازم، مشيراً إلى أن نسبة التخفيض قد تصل إلى «مستويات تناهز 50%»، علماً أن «نسب الاستجابة الإنسانية في سوريا في تناقص مستمرّ منذ بداية العام، بنسب عجز تجاوزت 70%، وبالتالي، فإن العام المقبل سيشهد نسب عجز مرتفعة للغاية»، وفقاً للبيان الذي حذّر أيضاً من تفاقم جديد في مستويات الفقر والجوع في المنطقة، بالتزامن مع ارتفاع متزايد في نسب البطالة.