غزة | ليست مشاهد المئات من جثامين الشهداء الملقاة في الشوارع وباحات المستشفيات، هي وحدها التي يمكن أن تَعلَق في عقلك، وأنتَ تتذكّر الأحداث التي عايشتَها في اليوم الأول لوقف إطلاق النار، إذ ثمّة حكاية أو معركة عايشها ذوو الشهداء، وهم يبحثون عن مكان يدفنون فيه أبناءهم. في صباح ذلك اليوم، غصّت مقبرة الفالوجا بمئات الجثامين التي وضعها أهالي الشهداء على الأرض، وبين القبور المتلاصقة، وجلسوا حولها يعتري وجوههم عجز لا يمكن وصفه: «أين سندفن الأكرم منّا جميعاً؟»، سأل الحاج أبو صالح الذي فقد 17 فرداً من أسرته. وأضاف، في حديثه إلى «الأخبار»: «والله، لو كان الأمر لي، لأقمتُ مكان منزلي المهدّم، قبوراً لهم. منذ ساعتين ونحن نبحث عن مكان نحفر فيه قبوراً، أو حتى قبراً واحداً يضمّهم جميعاً، ولم نجد».بحسب فايز الدغيم، وهو واحد من جيران المقبرة، فإن هذا المشهد كان يتكرّر طوال أيام الحرب، ولكن على شاكلة أكثر رعباً، حيث مثّل الحضور إلى المقبرة وسط القصف مغامرة قاسية في ذاته. يقول الرجل في حديثه إلى «الأخبار»: «قصفت الطائرات المسيّرة الأهالي مراراً أثناء عملية حفر القبور. في كثير من الأحيان كنّا نستيقظ ونرى شهداء مكفّنين ومتروكين على الأرض». أيضاً، في خلال المعركة، تغيّر البروتوكول الاجتماعي المتّبع لتشييع الشهداء، إذ إن المجازر الجماعية وصعوبة الظروف الأمنية ألغت مراسم الوداع والعزاء، فيما أكثر مَن قضى ذووهم لم يحظوا بفرصة إلقاء نظرة الوداع عليهم. على أنّ أكثر ما كان مؤذياً، هو الطريقة التي كانت تُنقل بها الجثامين إلى المقابر، وذلك عبر عربات تجرّها الدواب، أو فوق أسقف سيارات الأجرة، أو دفعاً في عربة على عجلتَين. «ليس هكذا نكرّم شهداءنا»، يقول أبو العبد الهندي وهو يجهش بالبكاء، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار»: «كنّا نضعهم على النعوش المزيّنة بالريحان والوورد، نكفّنهم بالعلم الفلسطيني ونلفّ وجوههم بالكوفية، نطوف بهم شوارع البلدة محمولين على أكتاف المئات من أحبابهم الذين يتزاحمون ليحظوا بهذا الشرف، هذه الحرب قلبت كلّ شيء... حقهم علينا كبير».
المجازر الجماعية وصعوبة الظروف الأمنية، ألغت مراسم الوداع والتشييع والعزاء


«الأسوأ من كلّ شيء هو أن يُدفن أحبابك في مقبرة جماعية»، يقول رامي أبو عشيبة، الذي فقد 33 فرداً من أبناء أسرته. ويتابع في حديثه إلى «الأخبار»: «لم يكن أمامنا خيار آخر. في ذلك اليوم، استشهد أكثر من 300 فرد في قصف مربّعات سكنية في شمال القطاع، وامتلأت باحات مستشفى الإندونيسي بالشهداء، وتطوّع المئات من الشباب لتكفين القتلى، وكان القصف مستمراً، والعشرات من الشهداء يصلون في كلّ دقيقة إلى المستشفى. لم يكن أمامنا خيار آخر. وثّق الموظّفون أسماء الشهداء، وأعطوا لكلّ عائلة رقم الحفرة التي دُفن فيها ذووها. ذهبنا إلى المستشفى بهم، وعدنا إلى مركز الإيواء نحمل رقماً. رقم فقط، هو ما تبقّى من ذكراهم».
في حيّ الشجاعية، ثمّة ما يجعل كلّ ما سبق ترفاً، حيث المربّعات السكنية التي دُمّرت في مناطق الطوابين وشارع النزاز والجديدة في الحيّ، ما زالت تضمّ أكثر من 400 شهيد، لم تصل إليهم أيادي المتطوّعين، ولم يحظوا بفرصة الدفن أصلاً، بل بدأت رائحة التحلّل تخرج من جثامينهم. هناك، التقينا محمد جندية، وهو أحد المشرفين على عملية التنقيب: «هذول شهداء يا عالم... شهداء، حرام يتركوا لحدّ ما تتحلّل جثامينهم، لازم يتشرّف قدرهم ومكانهم»، يقاطعه أبو حامد، وهو والد عدد كبير من الشهداء: «لقد نالت أرواحهم التشريف الذي تستحقّ في السماء... هذه الأجساد مجرّد تراب...».