لم يكن اندفاع الأساطيل الأميركية إلى البحر المتوسط بعد 7 تشرين الأوّل الماضي، وما أحدثه طوفان الأقصى، أمراً تفصيلياً. إذ إن الوجود الإسرائيلي في المنطقة مرتبط عضوياً بالدعم الأميركي المتنوّع. والوجه الاقتصادي لهذا الارتباط هو الدعم المفتوح للقطاع الإسرائيلي الأهم، وهو قطاع الشركات الناشئة.يُعد قطاع الشركات الناشئة، الذي يطغى عليه الطابع التكنولوجي، من أهم مصادر النمو الاقتصاد الإسرائيلي على مدى العقود الأخيرة. هناك سرديّة إسرائيلية كاملة عن «معجزة» الشركات الناشئة التي حوّلت الاقتصاد الإسرائيلي إلى اقتصاد مزدهر. حتى أن هذه السردية تتضمّن مصطلحاً يُطلق على الكيان الصهيوني هو:«أمّة الشركات الناشئة» (Start-up Nation)، وهو مصطلح راج في نهاية العقد الأوّل من الألفية الحالية. هذا المصطلح هو دلالة على أهمية هذا القطاع في تحقيق النقلة النوعية التي حظي بها الاقتصاد الإسرائيلي منذ التسعينيات من القرن الماضي.
القطاع التكنولوجي في هذا الكيان، أصبح من أهم القطاعات في الاقتصاد الإسرائيلي. لأن عوائده صارت تمثّل نحو 18% من الناتج المحلّي، ونحو نصف عوائد الصادرات الإسرائيلية، ويمثل 30% من الضرائب التي تجبيها الدولة. في الواقع، هذا القطاع هو من نتائج الطفرة في قطاع الشركات الناشئة. إذ أصبح الكيان الإسرائيلي رائداً في هذا المجال، حيث يتحلّى بأعلى معدّل شركات ناشئة للفرد في العالم (شركة ناشئة لكل 1400 شخص) وأعلى رأس مال مُستثمر للفرد في العالم (745 دولاراً لكل شخص) فصار يبلغ ضعف المؤشّر المماثل في الولايات المتحدة و4.5 أضعاف هذا المؤشر في بريطانيا.
لكن هذه الشركات الإسرائيلية ما كانت لتصبح، بالحجم الذي تبدو عليه اليوم، من دون حصولها على «تأشيرة دخول» إلى السوق الأهم في العالم، أي السوق الأميركية. عملياً، كل الشركات الناشئة، الطامحة إلى زيادة قيمتها السوقية إلى ما فوق المليار دولار، هدفها الوصول إلى السوق الأميركية، لأن هذه السوق هي التي تمتلك رأس المال الضخم، الذي يفتح للشركات أبواباً للصعود إلى المكانة العالمية. فأميركا هي مُصدّر رأس المال إلى العالم، وفيها يمكن الحصول على فرص التمويل والأرباح الهائلة.
يظهر استطلاع رأي أجراه فريق Angular Ventures مدى أهمية السوق الأميركية بالنسبة إلى الشركات الإسرائيلية الناشئة. شمل الاستطلاع 33 شركة إسرائيلية ناشئة، يبلغ حجم رساميلها مجتمعة 2.9 مليار دولار، وكلها لديها مبيعات أو عمليات في الولايات المتحدة. أكّد «83% من هذه الشركات أنّ التوسّع نحو الولايات المتحدة أدّى إلى تسارع كبير في المبيعات»، فيما تبيّن أن «40% من هذه الشركات تعتقد أن هذا التوسّع سهّل عملية التمويل». والتمويل هنا هو عبارة عن طرح الأسهم في الأسواق المالية، إضافة إلى الحصول على قروض من المصارف الأميركية. والأمر الذي يُسهم في ذلك هو العمق الذي تحظى به الأسواق المالية الأميركية، التي تُشكّل مركزاً لرؤوس الأموال القادمة من حول العالم للاستثمار، بهدف الحصول على عائدات مالية كبيرة، إضافة إلى حجم رؤوس الأموال المُستثمرة محلياً، ونحن نتحدث هنا عن أكبر اقتصاد في العالم.
وصول الشركات الناشئة الإسرائيلية إلى سوق الولايات المتحدة ما كان ممكناً لولا الدعم الذي حصلت عليه عند انطلاقها


لكنّ وصول الشركات الناشئة الإسرائيلية إلى سوق الولايات المتحدة ما كان ممكناً لولا الدعم الذي حصلت عليه أصلاً. إذ إنّ رأس المال الأميركي والأوروبي لم ينتظر ذهاب الشركات الإسرائيلية إلى الغرب، فقد حظيت هذه الشركات بالتمويل الغربي قبل أن تنطلق إلى تلك الأسواق، وهذا جزء من حركة رأس المال التي تغطي العجز في الحساب الجاري الإسرائيلي. عملياً، حركة رأس المال هذه تأتي إلى إسرائيل، فتُصحّح العجز في الحساب الجاري، وهو ما يسمح للاقتصاد الإسرائيلي بالمضي قدماً، وإن كان هناك عجز في الميزان التجاري، وفي الوقت عينه تتحضّر الشركات الناشئة الإسرائيلية للدخول إلى الأسواق الغربية الصعبة. وفي هذا السياق، يمكن العودة إلى الاستطلاع الذي أجرته Angular Ventures، إذ يُظهر أنّ 73% من الشركات الإسرائيلية الناشئة التي جمعت ما بين 1 إلى 5 ملايين دولار قبل الانتقال إلى الولايات المتحدة، تعتقد أنّ هذه الخطوة أدت إلى تحسين ظروف عمليات تمويلها في الولايات المتحدة. بمعنى أنّ الشركات التي حظيت بتمويل قبل ذهابها إلى الولايات المتحدة استطاعت أن تحصل على تمويل أكبر بغزوها تلك الأسواق.
والدعم الأميركي، تحديداً، ليس خافياً على أحد، إذ إنّ الإدارة الأميركية تتكلّم عنه بشكل واضح وصريح. فعلى موقع السفارة الأميركية في إسرائيل، يتحدث فريق السفير عن أهمية الدور الأميركي في ظهور «أمة الشركات الناشئة». فوفق هذا الموقع، أنشأت الشركات الأميركية 200 من أصل 300 مركز بحث وتطوير في إسرائيل. وفي التدقيق نجد أن الشركات الإسرائيلية تمثل ثاني أكبر مصدر للإدراجات الأجنبية في بورصة «نازداك»، بعد الشركات الصينية.
بشكل عام، يُظهر قطاع الشركات الناشئة أحد أشكال الدعم المفتوح الذي يحظى به الاقتصاد الإسرائيلي من قبل الغرب، وبشكل خاص الولايات المتحدة. إذ يؤمّن الغرب للشركات الإسرائيلية الظروف المالية والتسويقية المناسبة لدخول أسواقه، ووصولها إلى رؤوس الأموال الفائضة، ما يعود بالفائدة على الاقتصاد الإسرائيلي برمّته. وهذا الدعم المذكور يمتد إلى قطاعات أخرى، ويتّخذ أشكالاً متعددة، وهو يُظهر أهمية الارتباط بين الاقتصاد الإسرائيلي والامبراطورية الغربية بالنسبة إلى حياة الكيان واستمراريته الاقتصادية.