كل ما يُكتب ويُقال عن المجازر، لا يعبّر عنها فعلاً، هي أكثر من ذلك، الصور والمشاهد التي تعرضها وكالات الأنباء تنقل جزءاً من الجريمة، تنقلها ناقصة، تنقل اللون الأحمر، ولكنّه ليس دم الضحايا الذي كان حتى اللحظة الأخيرة مليئاً بالحياة، إلى أن أنهتها يد القتلة، ولن تستطيع أبداً التقاط رائحة الموت الذي يمسك بالمكان، ولا الملامح ولا النظرات الأخيرة التي بقيت معلّقةً حين غادرت الأرواح الأجساد.وكالات الأنباء العالمية تتعامل مع صور مجازرنا بفكرٍ تسويقيّ، لا يجب أن تكون الصورة قاسيةً جدّاً أو دمويّة، لكي يحتمل المشاهد رؤيتها، ولكنّها يجب أن تكون قويّةً، وبالتأكيد هي منتقاةٌ وفقاً لقواعد لتحقِّق أهدافها قدر المستطاع، وهنا، من يستطيع التأكيد أنّ الدوافع إنسانيّة بحتة، وسيحار العاملون في غرف الأخبار كيف يتعاملون مع هذه الصور، كيف يصفونها، «صور قوية»، «صور جيدة»، وسيشعر بالخجل من يسبقه الكلام إذا وصفها بـ «الجميلة»، وفي الواقع، هي ليست جيّدةً أو قويّةً أو قاسيةً فقط، هي صور حقيقيّة، وعيبها أنّها صورٌ ناقصةٌ لمجزرةٍ كاملة.
في وقتنا الحاضر، نحن نقرأ عن مجازر ضخمة حدثت في التاريخ، ولكنّنا لا نعرف متى وكيف تحوّلت إلى ما يمكن اعتباره معلومات عامّة، تماماً كما ينظر العالم اليوم إلى مجازر الهنود الحمر حين احتلّ الأرضَ الأميركيون الأوائل، الـ «pioneers» كما يطيب للأميركي أن يسمّيهم، بفخر اليوم، نحن نتحدّث عن عشرات الملايين من البشر، مجتمعات بكاملها، تقاليد وعادات ومقدّسات أُبيدت إبادةً تامّة.
الجزائر، بلد المليون شهيد، مليون شهيد قضوا وهم يقاومون لنيل حقّهم في الاستقلال من الاحتلال الفرنسي، وحتى الأمس القريب، وعلى مدى سنوات طوال، شاهدنا الجدل المستمرّ حول الاعتذار، اعتذار فقط عن مليون إنسان قتلتهم فرنسا خلال احتلالها لهذا البلد.
يكاد المشهد يكون ذاته مع بريطانيا خلال احتلالها للهند، فمجزرة «جاليانوالا باغ» المعروفة باسم مجزرة «أمريستار»، راح ضحيّتها ثلاثمئة وتسعة وسبعين قتيلاً، وألف ومئة مصاب، هذه الأرقام التي اعترفت بها بريطانيا، فيما تؤكّد المصادر الهندية أنّ الأرقام أكبر من ذلك بكثير، وفي موضوع الاعتذار، لربما تختلف اللغة فقط عن الفرنسي، يتحدّث البريطاني عن تلك المجزرة بـ «تعاطف»، ولكنّه لا يعتذر.
يمكن القول إنّ معظم الدول الغربية التي تقاسمت أو تنافست على احتلال بلدان يصعب تعدادها اليوم، معظم هذه الدول ارتكبت مجازر، حتى تلك الدول التي تبدو في غاية الوداعة الآن، كبلجيكا وجرائم الإبادة الجماعية في القارّة الأفريقية، أو البرتغال وإسبانيا وجرائمهما في أميركا اللاتينية، إيطاليا وهولندا... الجميع له تاريخٌ حافلٌ بالمجازر والإبادات الجماعية، ومعظم هذه المجازر تحوّلت اليوم إلى «معلومات عامّة».
في تاريخنا الحاضر، تتربّع إسرائيل على رأس اللائحة، وتكاد تكون الوحيدة التي تصل ماضيها بحاضرها، ومستقبلها (ولن يكون البعيد)، هذا الكيان ارتكب ويرتكب وسيرتكب المجازر، والعالم كلّه يعرف ويرى، ومع ذلك شهدنا مواقف غالبية الحكومات الغربية من الحرب على قطاع غزة، مواقف تراوحت بين مشارك ومساند وداعم، وصامت في «أحسن الأحوال».
وحدها «المحرقة»، (ولست أناقش الأرقام الحقيقية)، وحدها لم تتحوّل إلى «معلومات عامة»، ثمّة قوةٌ دوليةٌ تمنع تحوّلها وتفرض التعامل معها كجريمة، كأنها إبادةٌ حصلت يوم أمس، تُسَّنُ قوانين، ويُؤَّمن لها ما يلزم من القوّة لتنفيذها ومعاقبة من يخالفها، نحن أبناء سام، ولكن يكفي أن يُشَكِّك أحدُنا بالـ «هولوكوست» أو بالأرقام، وسيجد نفسه متّهماً بـ «معاداة السامية».
عالم لا يرى مجازرنا، هو أيضاً لا يرى إنسانيّتنا، القصص التي رواها الأسرى الذين أطلقت سراحهم المقاومة الفلسطينية خلال عمليات التبادل مؤخراً، جميعها ترتقي لتكون شهادات على إنسانية رجال المقاومة، وبالمقابل، نسمع التفاصيل المرعبة عن الانتهاكات داخل السجون الإسرائيلية، تواكب هذا كلَّه آليّاتُ دعاية لم تتعب من الترويج لقصص تصبغ المقاومين بالإرهاب، ووسائل إعلام عالمية، لفَّقَ بعضُها ومَسْرَحَ لأحداثٍ لم تحصل أبداً، وانكشفت لاحقاً.
«تقاطع المصالح»، «الأهداف المشتركة»، وعناوين كثيرة أخرى، يدور معظمها تحت مظلّة التآمر في الخفاء، وتحت مظلّة القوانين الدولية في العلن، ذلك كلّه قد لا يكون كافياً لفهمٍ حقيقيٍ لمواقف هذه الدول المشاركة والداعمة لـ «إسرائيل»، إن دولاً في تاريخها هذا الكم الهائل من المجازر، سيكون من المنطقي قراءة مواقفها هذه في سياق تاريخها، وعندها، لن يكون مفاجئاً الشبه الكبير بين ما فعله الأميركي بالهنود الحمر قتلاً وتهجيراً واستيطاناً، وبين الإسرائيلي، أو بين البريطاني وبدعة «الاحتجاز الوقائي» إبان احتلاله للهند، وبين نسخته الإسرائيلية «الاعتقال الإداري»، وهذه مجرّد أمثلة.
ما نشاهده اليوم، هو شيء يشبه انفصاماً في الشخصية لدى هذه الدول، بين الحكومات والشعوب، ولهذا، ترى الشعوبُ المجازرَ التي يرتكبها الإسرائيلي ومن معه في فلسطين، وهذا، وإن لم يكن كافياً، لكنه يكفينا الآن، لأنه يمنع أن تتحوّل هذه الإبادات إلى مجرّد أرقام، وأقول يكفينا الآن، لأن العالم ليس الحكومات فقط، ولأن المقاومين قادة المرحلة، ويعرفون أنّ العالم الذي لا يرى مجازرنا، يرانا جيداً حين نواجه ونقاتل.