سادت، في خلال الأيام الأخيرة، تكهّنات بأن الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة منذ حوالي الشهرين «قد لا تُستأنف»، ربطاً بإمكانية استكمال مراحل أوسع من صفقة التبادل، تشمل مجنّدين إسرائيليين أسرتهم حركة «حماس»، مقابل تحرير أسرى فلسطينيين من سجون الاحتلال. لا بل ثمّة من ذهب أبعد من ذلك، متحدّثاً عن احتمال عقد صفقة على قاعدة «الجميع مقابل الجميع»، ووقف نهائي للحرب. غير أن ما سبق، والذي وصفه بعض المحلّلين الإسرائيليين بأنه بمثابة «هلوسات»، هو في الأساس طرح قدّمته قطر، الراعية الرسمية للمفاوضات حول الأسرى، فيما لا يوجد أيّ عنصر في «كابينت الحرب» مستعدّ حتى للتفكير في ذلك، ليس انطلاقاً من أن مجريات الميدان العسكري تمنح إسرائيل بالضرورة أفضلية أو أوراق قوة، ولا لأن الجمهور الإسرائيلي قد لا يقبل بوقف الحرب في الوقت الحالي، كما ليس لأن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، يبتغي شراء الوقت وإنقاذ مستقبله السياسي ومستقبل ائتلافه أيضاً، إنما ببساطة لأن ما حدث في السابع من أكتوبر يستوجب، من وجهة نظر إسرائيل، «علاجاً» غير مسبوق.حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل هذه المرّة لم تتعامل مع السكان والبيئة العمرانية كضحايا محتملين لـ«أضرار جانبية»، بل حوّلتهم إلى عنصر مستهدف بحدّ ذاته، مركّزة جهدها على التخلّص منهم، وذلك عبر تجريد قطاع غزة من أيّ عوامل جذب، في مقابل خلق بيئة مثخنة بعوامل الطرد، وصولاً أخيراً إلى مشهد تأمله إسرائيل، يظهر فيه الفلسطينيون في غزة وهم يطرقون بوابة معبر رفح أو يدفعونها بأجسادهم لتقع، ثمّ ينفذون منها هاربين من الجحيم الذي أنتجته الحرب، إلى سيناء.
أما الولايات المتحدة، الراعي الرسمي لحرب الإبادة، فهي لا تفعل أكثر من «تلميع» صورة هذه الأخيرة، عبر التشديد على إدخال «المساعدات الإنسانية»، وتكرار طلب «تجنّب المس بالمدنيين»، فيما بدت زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، لإسرائيل، أقرب إلى صافرة إطلاق للجولة الثانية من الحرب. مع ذلك، واستباقاً لما قد تتعرّض له إسرائيل من ضغوط، اقترح الباحث في «معهد القدس للإستراتيجية والأمن»، غابي سيبوني، وزميله البروفيسور في «معهد أبحاث الأمن القومي»، كوبي مايكل، في صحيفة «معاريف»، جملة من الإجراءات «الإنسانية» التي قد تضمن إطالة أمد الحرب وتسمح لإسرائيل باستكمالها لتحقيق أهدافها.
الساعة العالمية تدقّ، حيث ستسمح الإدارة الأميركية بهجوم مركزي آخر ثم تطالب بوقف الحرب


وأشارا إلى أنه «في السنوات الأخيرة، أدرك الجيش أهمية التركيبة السكانية وكونها عنصراً عملياتياً في الحرب، وأنه يجب التعامل معها بشكل احترافي من أجل تقليل احتمال أن تفضي العمليات إلى تعطيل مسار القتال، أو حتى إيقاف الحرب في ظروف معيّنة، كما حدث بالفعل خلال الحروب التي شنّتها إسرائيل في العقود الأخيرة»، فهما يعتبران أن «المطلوب التحرك (بحذر) قدر الإمكان حتى لا يتعرض السكان المدنيون في غزة، والذين لا يشكلون جزءاً من الجهاز العسكري والسلطوي لحماس، ولا ينخرطون معها في القتال، للخطر».
كما يعتبران أن «ثمّة حاجة الآن إلى بذل جهدَين متوازيين: الأول هو جهد عملياتي قوي لمواصلة تدمير كلّ مراكز الثقل والبنية التحتية العسكرية والسلطوية لحماس؛ والثاني هو جهد لتقديم المساعدات الإنسانية الإسرائيلية في مناطق القتال»، مضيفَين أنه «ليس هناك تناقض بين هذين الجهدين، فهما متكاملان، خصوصاً عندما يساهم الجهد الإنساني في تعزيز الجهد العملياتي وتحسينه». وفي هذا الإطار، يشدّدان على أهميّة استخلاص العبر من حصار «مستشفى الشفاء»، وتجنّب تكرار نمط مماثل في «مستشفى ناصر» الواقع في خان يونس، ويُعدّ أكبر مرفق طبي في جنوب القطاع. وإذ يعتقدان أن الجيش صرف وقتاً طويلاً على عملية الحصار والإخلاء في «الشفاء»، فهما يقترحان أن يقيم الجيش بنفسه «مستشفى ميدانياً ينقل إليه مرضى وجرحى مستشفى ناصر وأيضاً النازحين إليه». وفي خلال عملية التنقيل هذه «بإمكانه محاصرة المستشفى، والتفرّغ في موازاة ذلك للقضاء على الأهداف العسكرية الكثيرة في الجنوب».
ولأن هدف الحرب المعلن، وإن بحذر، هو التخلّص فعلياً من أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين في غزة، عبر قتلهم أو تهجيرهم، يقترح الباحثان على تل أبيب أن تسمح باستمرار إدخال شاحنات المساعدات الإنسانية من معبر «كرم أبو سالم»، على أن يُضمن وصولها حصراً إلى التجمّعات المدنية التي لجأ إلها «غير المتورطين في القتال»، وبشرط عدم بلوغها ليس شمال غزة فحسب، بل وسط القطاع أيضاً. ووفقاً لهما فإن «إجراءات من هذا النوع تشكل علاجاً للضربة العسكرية، وتقلّص نطاق القيود التي قد تفرضها الإدارة الأميركية على إسرائيل، وتهدّئ الانتقادات الدولية»، ما سيمنح الأخيرة عملياً «مبررات لمواصلة الحرب، وإثبات أنها تستهدف حماس وليس المدنيين، وهو ما سيساعد في تجديد المجهود الحربي بشكل صحيح، وإطالة أمد الحرب التي تتطلب وجوداً عسكرياً طويلاً في الميدان».
وفي سياق متصل، يرى اللواء المتقاعد، ورئيس شعبة العمليات الأسبق، يسرائيل زيف، أن إسرائيل وصلت إلى «مفترق إستراتيجي» في الحرب؛ فمن جهة «عليها استكمال الهجوم للقضاء على الحركة»، ومن جهة ثانية «ينبغي أن تستوعب أنه في اليوم التالي للحرب، ستتحول غزة إلى أكبر مشكلة إنسانية في العالم. وإذا لم يكن هناك أحد يتحمل المسؤولية، فإنها ستبقى ملقاة علينا (على إسرائيل)، وسيستمر في دفع ثمن الخطأ أولادنا وأحفادنا». ويلفت زيف، في مقالة في موقع «ماكو» (التابع للقناة الـ12 الإسرائيلية)، إلى أن «وتيرة الحرب بطيئة، فيما لم تسجل أيّ إنجازات حاسمة. وطالما أن المختطفين الإسرائيليين لا يزالون في الأسر، فإننا في عجز لا يغطي عليه أي إنجاز.