شهد اليوم العالمي للتضامن مع فلسطين (28 تشرين الثاني)، فعاليات وحشوداً لافتة في أرجاء القارّة الأفريقية، من كيب تاون جنوباً إلى القاهرة والرباط وغيرهما شمالاً، فيما شهدت جانباً منها أديس أبابا، العاصمة الإثيوبية، ومقرّ «الاتّحاد الأفريقي». على أنّ ما بدا لافتاً، إصدار رئيس مفوضيّة الاتحاد، موسى فقي، بياناً أكد فيه «تضامُن أفريقيا مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة في نَيْل حرّيته ودولته»، ليعيد إلى المشهد، مرحليّاً على الأقلّ، دعم أفريقيا التقليدي للقضية الفلسطينية ورفْضها الاحتلال الصهيوني، باعتباره موقفاً مبدئيّاً لغالبية دول القارة، حتى تلك التي تقيم علاقات وثيقة مع إسرائيل.
بيان «الاتّحاد الأفريقي»: قراءة في الدلالات
جاء بيان «الاتّحاد الأفريقي» واضحاً تماماً لجهة صياغته ومطالبه، إذ أكد أن قضية الشعب الفلسطيني لم تكن أكثر إلحاحاً مثلما هي حالها اليوم، وأن الاعتداءات الإسرائيلية الراهنة تمثّل «انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي، والقانون الإنساني الدولي»، ولها تأثير في حياة المدنيين الفلسطينيين على وجه الخصوص، «والسلام في الإقليم بشكل عام». ودعا البيانُ المجتمعَ الدوليّ إلى تحمّل مسؤولياته «بخصوص القضية الفلسطينية، وتطبيق جميع قرارات الاتّحاد الأفريقي والأمم المتحدة المتبنّاة منذ عام 1948، وحتى اليوم، بهدف الوصول إلى حلّ سلمي يحترم حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية»، لافتاً إلى أن موقف أفريقيا الداعم لفلسطين، والقائم على قيم الحرية والعدل والمبادئ الإنسانية، يستهدف استعادة فلسطين «حقّها في الوجود كدولة رئيسة قابلة للاستمرار في الشرق الأوسط»، وأن الوضع الحالي «يستدعي تحرّكاً عاجلاً وواضحاً من قِبَل المجتمع الدولي نحو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية». وختم بالتأكيد أنّ أعمال إسرائيل، بما فيها الحرب الحالية في غزة، ترقى إلى «جرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانية»، في ما يمثّل أعنف تصريحات مناهضة للسياسات الإسرائيلية تَصدر عن الديبلوماسي التشادي المخضرم، الذي عُرف عنه، قبل أعوام قليلة، الضلوع في هندسة منْح إسرائيل وضع مراقب في المنظّمة الإقليمية.
ويمثّل البيان خطوة مهمّة معبّرة، بعد أشهر من انقسام أفريقي - أفريقي حول منْح إسرائيل صفة عضو في الاتّحاد (وهو الوضع الذي تتمتّع به فلسطين)، فيما دلّت الإشارة إلى ارتكاب الاحتلال جرائم حرب، ومخالفته القانونَين الدولي والدولي الإنساني، على تحوّل كبير في «الرؤية الأفريقية» الرسمية. كما تمثّل هذه الخطوة، والتي تزامنت مع عودة الحرب إلى غزة مطلع الشهر الجاري، عودةً قوية إلى أُسس العمل الجماعي الأفريقي، منذ تشكيل منظّمة «الوحدة الأفريقية» قبل ستة عقود.

فلسطين في بؤرة التحوّلات الدولية: أفريقيا داعم تقليدي
ظهرت تعليقات كثيرة، أخيراً، تؤشّر إلى تداعيات الأزمة الحالية في غزة على مجمل المشهد العالمي، وربّما - في الحدّ الأدنى - تجسيدها لتحوّلات خطيرة في هذا المشهد الذي تحوز أفريقيا نصيباً منه، ولا سيما على وقْع تسارُع التنافس الدولي على القارّة، وتبدّلاته الحادّة، والتي ترتبط في جانب منها بالتحوّلات الجيواستراتيجية المرتقبة في منطقة البحر الأحمر وشرق المتوسط. وترتبط أفريقيا بهذه التداعيات على أكثر من مستوى، ربّما أبرزها حالياً الدفعة القوية التي قدّمتها جنوب أفريقيا داخل تجمّع «بريكس» لإصدار إدانة واضحة لحرب إسرائيل على غزة، ودعوة مصر، نهاية تشرين الثاني الماضي، مجلس الأمن، إلى قبول العضوية الكاملة لفلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في ما يُتوقّع أن يلقى دعماً أفريقيّاً شبه كامل.
كذلك، حظيت دعوة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي (29 نوفمبر)، إلى عقْد مؤتمر سلام دولي شامل، وذي أجندة محدّدة قابلة للخروج بنتائج يضمنها المجتمع الدولي، بتأييد أفريقي مطلق، ولا سيما أن «المبادرة الصينية» تقوم في الأساس على تفويض الأمم المتحدة واستهداف وضْع خريطة طريق وجدول زمني للتوصّل إلى «حلّ الدولتين» (قيام دولة فلسطينية). وبغض النظر عن احتمالات استمرار الحرب، فإن الدعم الأفريقي الدائم لفلسطين، والذي تجاوز مرحلياً الاختراقات الإسرائيلية في أفريقيا في السنوات الأخيرة، يُتوقّع أن يؤتي ثماره الديبلوماسية في أيّ جهود دولية وإقليمية مقبلة.

حلول إسرائيلية: الجزرة والعصا
رغم مساعي إسرائيل الحثيثة للترويج لروابط «الأخوّة» المزعومة مع الشعوب الأفريقية، إلا أنّ أزمة غزة الأخيرة كشفت عن طابع استعماري صريح للكيان الصهيوني في القارّة، وهو ما جلّاه - مثلاً - استقدام إسرائيل (نهاية تشرين الثاني الفائت) مئات العمّال في قطاع الزراعة من دولة مالاوي، ليحلّوا محل العمالة التي غادرت العمل في مزارع «غلاف غزّة»، مع توقعات بارتفاع أعداد العمّال المالاويين المتجهين إلى غزة، حيث يحظى هذا التوجّه بدعم كبير من حكومة مالاوي ضمن ما وصفته، في تعليقات لها، بـ«برنامج تصدير العمّال» إلى إسرائيل (وسط معارضة عمّالية وشعبية كبيرة للخطوة) من بين دول أخرى. كما أنّ تصدير العمّال جاء بعد أسبوعين فقط من منْح إسرائيل، مالاوي منحاً بقيمة 60 مليون دولار لمواجهة أزمتها الاقتصادية الخانقة، في متغيّر راديكالي في طبيعة سياسات إسرائيل في القارّة، والتي كانت تقوم في الأساس على توظيف أدوارها التقنية والأمنية لمصلحة قوى دولية وإقليمية في القارّة، نحو تخصيص مساعدات مالية مباشرة تضمن ولاءات عدد من الدول الأفريقية المعنية. وبحسب مراقبين في جنوب القارّة، فإن مالاوي تمّثل استثناءً واضحاً في توجّهات بقية الدول الأفريقية التي تتبع توجهاً متشدّداً إزاء إسرائيل في إنكارها حقوق الشعب الفلسطيني.
في هذ الوقت، لا تزال إسرائيل تعوّل بقوّة على مواقف عدد من الدول الأفريقية في كبح جماح «التشدّد الأفريقي» المتنامي حيال الدولة العبرية. ومن بين ما تراهن عليه تل أبيب، في هذا الإطار، استمرار تبنّي الرئيس الكيني، وليام روتو، مقاربة تقوم على ربط الصراع في غزة «بتهديدات الإرهاب في بلاده»، أو ما يمكن وصفه بإعادة الإنتاج لخطاب «التهديدات الإرهابية»، بنسخته الأميركية، لتمرير سياسات حماية مصالح كينيا وتوسيع عمق تأثيرها الإقليمي. وفي مواجهة الانتقادات الداخلية المتنامية لسياسات روتو «الشرق أوسطية»، اضطرّت حكومته (حسب تقرير لـ«أفريكا انتيليجنس» في 30 نوفمبر) لتوضيح موقفها إزاء الأزمة في غزة لدى سفراء الدول العربية في نيروبي، في تصرّف استثنائي يوضح عمق المأزق الكيني وطبيعة خيارات روتو في شأن القضية الفلسطينية.
لا تزال إسرائيل تعوّل بقوّة على مواقف عدد من الدول الأفريقية في كبح جماح «التشدّد الأفريقي»


كما تظلّ الكاميرون حليفاً بارزاً لإسرائيل في أفريقيا منذ وصول الرئيس الحالي بول بيا إلى الحكم (1984)، حيث تواصل ياوندي تجاهل اتّخاذ أيّ موقف متوازن من الأزمة، أو مغاير لمضمون خطاب بيا الموجه إلى الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هيرتسوغ (9 أكتوبر الفائت)، والمعبّر عن تضامن الأولى الكامل مع الكيان الإسرائيلي. لكن التأثير الكاميروني في الموقف الأفريقي يظلّ محدوداً لعدّة اعتبارات، منها تفهُّم أنّ نظام بيا لا يستطيع في الأساس مهاجمة إسرائيل التي تتولّى تدريب ما يُعرف بقوات النخبة الكاميرونية منذ عقود، وأنّ هذا النظام يواجه تحدّيات خطيرة في شمال البلاد لا يستطيع مواجهتها حال تخلّي إسرائيل عن دعمه.
وهكذا، يبدو حضور دولة الاحتلال الراهن في أفريقيا في مواجهة متغيرات كبيرة جداً تفرض على الأولى تبنّي سياسات أكثر براغماتية مع الدول الأفريقية، وتوفّر للأخيرة قوّة تفاوضية أكبر في موازنة مصالحها مع الكيان الصهيوني، في تغيير واضح في معادلة النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا، هو الأكبر من نوعه منذ نهاية الحرب الباردة.

خلاصة
يؤشّر استئناف إسرائيل هجماتها العسكرية في قطاع غزة، بعد ساعات من تفاؤل حذر بتمديد هدنة، إلى تصعيد محتمل في المواقف الأفريقية من الأزمة في غزة ومجمل القضية الفلسطينية في المدة المقبلة، ولا سيما أن قوى إقليمية كبيرة في أفريقيا نجحت في حشد مواقف رافضة لعضوية إسرائيل في «الاتّحاد الأفريقي»، على خلفية عدوان الأخيرة وانتهاكاتها، وتراجع الأصوات الأفريقية المدافعة - علناً على الأقلّ - عن هذه الخطوة، ممّا يَرجح معه إرجاؤها إلى أجل غير مسمّى.