سُجّلت في الأيام الماضية تطوّرات بعضها متوقع، وبعضها الآخر نوعي، وأحداث دراماتيكية تعكس نوعاً من اختلاط الأوراق في المنطقة، وتبدّل رقعة الهواجس لدى أطرافها، وتغيّر في أولوياتهم، وتقود إلى ما يمكن وصفه بـ «تعويم» المحاور، جزئياً، ومؤقّتاً. أحد تلك التطوّرات المتوقّعة، مصافحة أمير قطر تميم بن حمد، الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، يوم الجمعة الماضي على هامش قمة المناخ في دبي. أما التطور النوعي، فهو الاتصال بين مسؤولَين عسكريين رفيعَي المستوى في البلدين القطبين في المنطقة: شقيق ولي العهد السعودي، وزير الدفاع خالد بن سلمان، ورئيس هيئة الأركان العامة الإيراني، محمد باقري، فيما التساؤل في محله عمّا إن كان الانخراط «الحمساوي» ضمن محور المقاومة سيظلّ عند مستوى «علاقة عمل»، أم أنه سيرقى إلى الحلف غير القابل للكسر.
أولاً: المصافحة المتوقّعة
يعكس اللقاء الرمزي بين أمير قطر ورئيس الدولة العبرية الضغوط التي تواجهها الدولة الخليجية الصغيرة، وكيفية إدارتها لعلاقاتها المعقّدة بين حلفائها الدوليين من ناحية، والإقليميين من ناحية أخرى. منذ أُعلن، في 28 تشرين الأول الماضي، عن وصول وفد قطري إلى إسرائيل، تبيّن أن الدوحة استجابت للمطالب حتى لا نقول انحنت للضغوط الأميركية العاصفة التي تحثّها على خلق علاقة «متوازنة» بين «حماس» وإسرائيل، بوصفهما طرفين متحاربين، وبوصف قطر وسيطاً بينهما، ليست لديها مشكلة مع أي منهما، ولا تحابي طرفاً على آخر.

ثانياً: مكاتب متبادلة في تل أبيب والدوحة
وصول الوفد القطري إلى تل أبيب، ووصول وزيرة التعاون الدولي، لولوة الخاطر، إلى غزة وتعبيرها بصدق عن تعاطفها الحميم مع أهلها، شكّلا مقدمة للقاء الشيخ تميم بهرتسوغ. ولعل التقدير في محله بأن المجموعة الديبلوماسية والمخابراتية القطرية، التي زارت تل أبيب، قد تكون بصدد تشكيل ما يمكن عدّه مكتباً دائماً للاتصال بين دولتين لا تقيمان علاقات رسمية بينهما. وفي المقابل، قد يكون علينا توقُّع افتتاح مكتب إسرائيلي في الدوحة، حتى من دون إعلان رسمي عاجل. لكن في الأحوال كلها، صار التواصل بين إسرائيل وقطر ممنهجاً ومشرعناً.

ثالثاً: غايات أميركية ثلاث
افتتاح المكتبين سيؤكد ثلاثة أمور: الأول أن الدوحة تأخذ بنصائح واشنطن، وما دامت تكرّر بأنها سمحت لـ«حماس» بافتتاح مكتب لها، بناء على طلب الولايات المتحدة وتنسيق معها، فإن عليها السماح للكيان بافتتاح مكتب مماثل. هذه نصيحة حليف موثوق. والأمر الثاني، هو أن قطر، بافتتاح مكتب للكيان أو بإعطاء علاقتها معه غطاء من رأس الدولة، تؤكد أنها تتخذ موقفاً متوازناً بين أطراف النزاع وتسعى إلى تسهيل التواصل بينها. أما الأمر الثالث، فهو أن هذا التواصل يأتي في ظل تفهّم أميركا لعلاقة قطر الآخذة في النمو مع إيران، والهادفة إلى إحداث توازن مع السعودية التي هدّدت الدوحة، في صيف 2017، وتفهّمها أيضاً لوجود عسكري تركي في قطر ما عاد يجري الحديث عنه. يبدو الحلف السعودي سعيداً بأن تكون أبوظبي هي العاصمة التي تحتضن المصافحة بين قطر وإسرائيل، كما أن دفع قطر إلى هذا الخيار «سيُخرس» ألسن الأطراف المناصرة للحلف «الإخواني»، والتي تلوم الرياض على عملية تطبيع مرتقبة ولا تدين أنقرة على عملية تطبيع قديمة.
التنسيق السعودي مع طهران قد يتخذ مساراً متنامياً، لضمان أن تظل الرياض في وضع «محايد»


رابعاً: «حماس» و«أشباه الشياطين» في محور المقاومة
تقيم «حماس» علاقات وثيقة مع حلف تركيا - قطر - «الإخوان»، وتعتبره حاضنتها الشعبية والسياسية. أما علاقات مكتبها السياسي مع محور المقاومة، فيمكن اعتبارها علاقات «عمل»، فهي لم تصل بعد إلى المرحلة التي توصف بالإستراتيجية، أو غير القابلة للانكسار.
أنظر مثلاً إلى ما تقوله تيارات «الإخوان» بتنوعاتها في الكويت والأردن ولندن وتركيا وقطر، أي في أماكن نفوذ هذا الحلف، من كلام سلبي أو غير إيجابي عن إيران و«حزب الله» والعراق، وحتى اليمن، وإن بدرجة أقل. بعض هذه الأطراف إذا حاول عدم الإساءة، فإنه يستخدم مقدمات طويلة لتبرير التعاون «الجبري» مع من يعتبرهم «الشياطين» أو «أشباه الشياطين» في محور المقاومة. يستدعي ذلك عملاً جبّاراً من طرف «حماس»، ليس لعقلنة خطاب مناصريها وجعله أكثر ديبلوماسية وحساسية، أو دعوة خالد مشعل المسيء إلى شركاء الدم إلى التزام الصمت فحسب، فهذا لم يعد كافياً، بل العمل بجد لتطوير العلاقات مع محور المقاومة إلى مستوى الحلف الموثوق، وهذا يشمل بالضرورة تعريف جمهورها الواسع: من هي أميركا، العدو للشعوب؟ ومن هي إيران، الجار المسلم، شريك التاريخ والجغرافيا، المناصر للحق الفلسطيني؟

خامساً: ما وراء الاتصال غير المألوف
بقدر ما يبدو الاتصال غير مألوف بين العسكريين السعوديين والإيرانيين، فإنه معبّر كذلك عن القلق السعودي مما يسمّى اتساع رقعة الحرب، ومن التوجّه اليمني في إطلاق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل، واحتجاز سفن تابعة لها. وإذ يلتقي الهاجس السعودي مع أميركا والكيان في بعده الآني والمستقبلي، إلا أنّه يتخذ حالة أشبه بالطوارئ بالنسبة إلى الرياض، مع تحوّل اليمن إلى قوة عسكرية، صاروخية وبحرية وبرية، تدفع السعودية إلى أن تفكّر في احتمال قدوم «طوفان» من اليمن، ما دام الحصار يلفّه ويجوّع أبناءه، ما يجعل الرياض تتحضّر للقيام بـ «سيف حديدي»، وهو مسمى العدوان الصهيوني على غزة، وهذا آخر ما تحتاجه المنطقة. التنسيق بين طهران والرياض على هذا الصعيد قد يتخذ مساراً متنامياً، لضمان أن تظل السعودية في وضع «محايد»، في الحرب بين إسرائيل وفلسطين، وبين أميركا وإيران، وبين المحور الأميركي ومحور المقاومة، لكن ذلك يستدعي بالضرورة تسوية مشكلة اليمن. ورغم أن تلك المسارات الثلاثة تبدو متشابكة، فإنها منفصلة كذلك، وأهم ما حقّقته أول تجربة لمقولة «وحدة الساحات»، تطبيقها على أرض الواقع، من دون خلط بين المسارات المذكورة.

سادساً: أكبر من اختلاط الأوراق
يصحّ القول إن تأثيرات حرب غزة تتجاوز بعْثرة الأوراق، نحو إعادة تشكيل المنطقة، خصوصاً على صعيد القضية الفلسطينية، التي فرضت نفسها من جديد وبقوة على الجميع، قوى دولية ومحاور إقليمية، بعد سنوات من وضعها على الرّف. ولاحظ السعوديون حجم خسارتهم بعد سنوات من إهمال القضية، وأدركوا كم هم مهمّشون طوال شهرين مَضَيا، إلا من رئاسة وفد عربي إسلامي لا يقرأ أحد بياناته، فيما الأضواء مركّزة على قطر الصغيرة، وإيران الند للولايات المتحدة. مع ذلك، سيكون من الخطأ الفادح اعتبار المحاور الإقليمية: الإيراني والتركي والسعودي لاغية كما روّج البعض، من دون أدنى تعمّق، إثر توقيع اتفاق بكين في آذار الماضي.