رام الله | لم تجد إسرائيل على طاولتها، عقب عملية «طوفان الأقصى»، أيّ خطط عسكرية جاهزة للتعامل مع المقاومة في قطاع غزة، والردّ على العملية الإستراتيجية التي وجّهتها إليها الأخيرة في الصميم. وبدلاً من ذلك، وضعت هدف القضاء على حركة «حماس» وتدمير كل قدراتها العسكرية، عنواناً لعدوانها الواسع. وفيما تدرك استحالة تحقيق هذا الهدف، فهي تعرف جيداً أن العمل عليه قد يتيح لها تنفيذ مخطّطها «الحلم» المتمثّل في «تهجير أهالي غزة»، علماً أن نياتها هذه لم تكن خافية منذ اليوم الأول للعدوان، سواء ما عبر كان يُسرّب بدايةً على لسان المحلّلين والكتّاب الإسرائيليين، أو لاحقاً عبر تصريحات قادة الاحتلال العسكريين والسياسيين، وأبرزهم وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، الذي دعم مخطّطاً اقترحه عضوا «الكنيست»، رام بن باراك، وداني دانون، في مقال في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، اعتبرا فيه أن الحلّ لمشكلة غزة يكمن في خطّة هجرة طوعية للاجئي القطاع. ومن جهته، قال سموتريتش إن «قبول اللاجئين من قِبَل دول العالم بدعم ومساعدة مالية سخية من المجتمع الدولي، بما في ذلك دولة إسرائيل، هو الحلّ الوحيد الذي سيضع حداً لمعاناة وألم اليهود والعرب على حد سواء»، مشدّداً على أن «إسرائيل لن تكون قادرة بعد الآن على تحمُّل وجود كيان مستقلّ في غزة، يقوم بطبيعته على كراهيتها والرغبة في تدميرها». ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي، في جولته الأولى، وعلى مدى 50 يوماً، شنّت إسرائيل حرب «إبادة» شاملة استهدفت المدنيين ومنازلهم، والمستشفيات ومدارس «غوث وتشغيل اللاجئين» التي كانت تحوّلت إلى مراكز إيواء، مانعةً دخول المساعدات الطبية والغذائية إلى الفلسطينيين، وذلك بهدف طرد سكان شمال قطاع غزة من مناطقهم، وجعل الحياة في هذا الجزء مستحيلة. كما استهدفت مناطق أخرى في القطاع، بحيث لم تبقَ منطقة «آمنة» فيه، بارتكابها مئات المجازر، واستهداف النازحين الذين كانت تطلب منهم مغادرة الشمال، ومن ثمّ تقصفهم أثناء مغادرتهم، أو تقصف مراكز الإيواء التي كانوا يلجأون إليها، على غرار عشرات المجازر التي نفّذتها في شارع صلاح الدين الواصل بين الشمال والجنوب. أيضاً، عملت إسرائيل، بكل طاقتها، للضغط على مصر للقبول بتهجير الفلسطينيين، إلّا أن القاهرة لا تزال على موقفها المبدئي الرافض لمثل هذا المقترح.
وعلى رغم رفض دول العالم خطّة التهجير، إلا أن ذلك لم يزحزح إسرائيل عن هدفها الرئيسيّ، والذي استأنفت عدوانها من أجل تحقيقه، وكان أحد تجلّياته الدموية نشْر جيش الاحتلال ما قال إنها «خريطة» توضح فيها لسكان غزة المناطق الآمنة التي يمكن أن يتوجّهوا إليها، في دعوة صريحة للسكان إلى إخلاء المناطق «المستهدفة». ويبدو أن إعلان الاحتلال عن هذه الخريطة - التي لم تغيّر من السلوك الحربي الذي يعتمده بل زادته إرهاباً -، شأنه شأن الدعايات الإعلامية التي يعتمدها للتخفيف من الضغوط الدولية، فضلاً عن المطالب الأميركية بتجنّب استهداف المدنيين، لم يغيّر في واقع الأمر شيئاً؛ إذ واصلت طائرته ومدفعيّته استهداف المناطق التي تؤوي النازحين وتلك السكنية التي رفض أهلها الخروج، من مثل مخيم جباليا والشجاعية. وبحسب الخريطة، قسّم الجيش الإسرائيلي قطاع غزة إلى «بلوكات» مرقّمة، على أن يحدّد من خلالها الأماكن التي ينوي استهدافها، بما يسمح للسكان بمغادرتها مسبقاً، في ما يدلّ على أن الحديث لم يَعُد يدور حول أهداف عسكرية، بل حول التدمير ومسح الأحياء بكاملها، على غرار ما جرى، أول من أمس السبت، في الشجاعية.
إلى جانب التهجير، تسعى إسرائيل إلى قضم مساحات شاسعة من قطاع غزة


وجاء نشر الخريطة بالتوازي مع دعوات إسرائيلية مكثّفة، عبر نشر البروشورات ورسائل الموبايل المرسلة إلى السكان، للانتقال إلى جنوب القطاع، في ظلّ استعداد جيش الاحتلال لتوسيع الهجوم البري ليشمل المناطق الجنوبية، وهو ما بدأ يتحقّق مساء أمس بالفعل مع إعلان الجيش الإسرائيلي انطلاق عدوانه البري في اتجاه مدينة خانيونس. وكان مسؤول رفيع في جيش الاحتلال، قد قال إلى موقع «واللا»، إنه سيُطلب من الجنود الوصول إلى «مناطق حيوية في جنوب قطاع غزة». ومن جهته، علّق مكتب «تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة» (أوتشا) على الخريطة، بالقول إن نشرها «لا يحدّد إلى أين على الناس أن يذهبوا»، مضيفاً أنه «من غير الواضح كيف يمكن للذين يقطنون في غزة أن يطّلعوا على الخريطة بلا كهرباء، وفي ظلّ الانقطاع الحالي في الاتصالات».
ويعني ذلك أن النازحين الذين توجّهوا إلى الجنوب، أو سيتوجّهون إليه، سيجدون أنفسهم تحت القصف مرّة أخرى، فيما بات واضحاً أن جوهر الخطّة الإسرائيلية يقضي بتجميع السكان هناك بأعداد كبيرة، ومن ثم شنّ عملية عسكرية واسعة، تدفع أهالي القطاع في اتجاه مصر، من أجل فرض التهجير كأمر واقع، بشكل يخرج عن سيطرة القوات المصرية.
في هذا الوقت، كشفت صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية أن خطة إسرائيلية عُرضت على مسؤولين كبار من الحزبَين «الديموقراطي» و«الجمهوري» في مجلسَي النواب والشيوخ الأميركيَّين، و«نالت مباركتهم»، وسيُرَوَّج لها مباشرة عقب الموافقة عليها، تشمل 4 مبادرات اقتصادية لـ4 دول في المنطقة، هي مصر والعراق واليمن وتركيا، بعد أن تقبل «هجرة طوعية وليس بالإكراه» للفلسطينيين إلى أراضيها. وتقترح الخطّة أن يتمّ تخصيص مليار دولار من المساعدات الخارجية لمصلحة اللاجئين من غزة الذين سيُسمح لهم بدخول مصر، على أن يتمّ إشراك العراق واليمن في الخطّة مقابل مليار دولار من المساعدات الخارجية، فيما ستتلقّى تركيا أكثر من 150 مليون دولار. وطالب واضعو المقترح، الحكومة الأميركية بتخصيص هذه المساعدات المالية ل‍مصر والعراق واليمن وتركيا، بشرط استقبال عدد معيّن من اللاجئين، فيما تفصّل الخطّة عدد سكان غزة الذين ستستقبلهم كل دولة: مليون في مصر (أي 0.9 % من السكان هناك)، ونصف مليون في تركيا (0.6% من الأتراك)، و250 ألفاً في العراق (0.6%)، و250 ألفاً في اليمن (0.75% من اليمنيين).
وإلى جانب التهجير، تسعى إسرائيل إلى قضم مساحات شاسعة من قطاع غزة، إذ ذكرت «القناة 12» العبرية أن حكومة الاحتلال أبلغت الدول العربية (مصر، الأردن، السعودية والإمارات) وتركيا، بخطّتها لإقامة منطقة عازلة على الجانب الفلسطيني من الحدود مع قطاع غزة ضمن مبادرات ومقترحات تتعلّق بـ«اليوم التالي للحرب»، مشيرة إلى أن «إسرائيل تريد منطقة عازلة من الشمال إلى الجنوب تمنع حماس أو مسلّحين آخرين من تنفيذ عمليات تسلّل أو هجمات». وأضاف مسؤولان أمنيان مصريان أن إسرائيل طرحت، خلال اجتماع عُقد هذا الشهر في القاهرة مع مسؤولين مصريين وقطريين، فكرة تجريد شمال القطاع من السلاح وإقامة منطقة عازلة هناك تحت إشراف دولي. وبحسبهم، فإنه في حين أن بعض الدول العربية لا تعارض إنشاء المنطقة العازلة، إلا أن هناك خلافات حول موقعها. وأضافت المصادر أن إسرائيل اشترطت في ذلك اللقاء وقفاً كاملاً لإطلاق النار وإخضاع قادة «حماس» للقانون الدولي.