يعكس استمرار «مسلسل المجازر» الإسرائيلية في غزة، إلى حدّ بعيد، سياسة الهروب إلى الأمام من جانب حكومة بنيامين نتنياهو، ومحاولتها المتواصلة، حتى الساعة، وعلى رغم مرور نحو شهرين على الحرب على القطاع، القفز فوق عجزها عن طرح أيّ «إستراتيجية خروج» من تلك الحرب التي تركّزت إلى الآن على تنفيذ أجندة انتقامية أكثر منها عسكرية. وبات واضحاً لدى كثير من المراقبين، أن تل أبيب، وحلفاءها في واشنطن، لا يملكون تصوّرات واضحة لفترة ما بعد الحرب. ولعلّ جانباً من هذه «الضبابية»، هو ما أضاء عليه أخيراً موقع «بوليتيكو».
ماذا جاء في التسريبات؟
كشف الموقع، نقلاً عن مصدرَين مسؤولَين في وزارة الخارجية والبيت الأبيض، أن مسؤولي إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، وفي مقدّمهم مساعدة وزير الخارجية، باربرا ليف، إلى جانب مسؤولين بارزين آخرين في مكتب شؤون الشرق الأوسط في الوزارة، كهادي عمرو، ودان شابيرو، فضلاً عن مسؤولين في أقسام أخرى سواء في الخارجية، كقسم التخطيط ورسم السياسات، أو في وكالات حكومية أخرى كمجلس الأمن القومي حيث يتصدّر كبير مستشاري بايدن (منسق سياسات الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي) بريت ماكغورك، وتيري وولف، الذي سبق أن شغل مناصب في وزارتَي الخارجية والدفاع، شرعوا منذ أسابيع، في عقد سلسلة اجتماعات مشتركة، وعلى أكثر من مستوى، تناولت «صياغة خطّة متعدّدة المراحل لِما بعد الحرب» في غزة، وتطرّقت إلى الأدوار المنشودة من مختلف الفاعلين المحتملين ضمن «الخطّة»، كالسلطة الفلسطينية، وبعض الحكومات العربية، إلى جانب إسرائيل، والولايات المتحدة. وتحت عنوان: «كيف يخطّط فريق إدارة بايدن لمرحلة ما بعد الحرب في غزة؟»، أوضح موقع «بوليتيكو» أن ما تقترحه الخطّة المذكورة لا يشكّل «حلاً مثالياً»، مبيّناً أن المسؤولين في واشنطن ينظرون إليه باعتباره «الأقلّ سوءاً ضمن الخيارات المتاحة» للتعامل مع الوضع في القطاع، فور انتهاء العمليات الحربية.

دور السلطة الفلسطينية
لعلّ أكثر النقاط إشكالية في المناقشات المشار إليها، كان الحديث عن الدور المنوط بالسلطة الفلسطينية في غزة مستقبلاً، ولا سيما أن الرئيس الأميركي كان قد تحدّث في وقت سابق عن الحاجة إلى «سلطة معاد تأهيلها» لتولّي أدوار مستقبلية معيّنة في إدارة القطاع. وفي هذا الصدد، نقل الموقع عن مسؤول في وزارة الخارجية قوله «(إننا) (الأميركيون) عالقون في المنتصف»، وإنه «على المستوى السياسي، هناك تفضيل (من جانب البيت الأبيض) لأن تقوم السلطة الفلسطينية بلعب دور في حكم القطاع، غير أنها تواجه تحدّيات، سواء على صعيد الشرعية، أو على صعيد قدرتها» على الإيفاء بتلك المهمّة، في إشارة إلى الاتهامات الموجّهة إلى حكومة محمود عباس، بالفساد، وانعدام الكفاءة. وبحسب الموقع، فإن «السلطة الفلسطينية الحالية لا تتمتّع بالشعبية لدى قطاع واسع من الفلسطينيين الذين يعتبرونها فاسدة، وضعيفة، وبعيدة عن الواقع، ولا سيما أنها لم تجر انتخابات منذ سنوات عدّة. ومع ذلك، يرى الإستراتيجيون الأميركيون المولجون بمهامّ التخطيط، أن عودة السلطة الفلسطينية، التي تدير بعض المناطق في الضفة الغربية، لإدارة القطاع هي بمثابة الخيار الأكثر قابلية للتحقُّق».
أكثر النقاط إشكالية في المناقشات المشار إليها، كانت الحديث عن الدور المنوط بالسلطة الفلسطينية في غزة مستقبلاً


أدوار عربية وأممية وأميركية
وأشار الموقع إلى أن الخطّة تَطرح تصوّرات حول إمكانية اضطلاع الدول العربية بدور مستقبلي في غزة، مضيفاً أن «بعض الدول العربية أبدت معارضتها المطلقة لفكرة إرسالها قوات عسكرية إلى غزة، فيما بدت دول عربية أخرى متردّدة إزاء السير في ذلك». وأكمل الموقع، نقلاً عن أحد المسؤولين الأميركيين، أنه «في المناقشات الأخيرة (بين قادة عرب ودبلوماسيين أميركيين)، بعض الأطراف العربية أَظهرت انفتاحاً أكبر للقبول بالفكرة»، كاشفاً أن «إحدى الأفكار المتداولة في هذا السياق، هي الطلب إلى الإمارات المساعدة في إعادة بناء المنشآت الصحية، وتدريب الكادر البشري الحكومي» في غزة، إلى جانب فكرة أخرى يجري التداول بها في كواليس الإدارة، تستند إلى مقترح يقف خلفه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ويقضي بـ»إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، في ظلّ وجود أمني دولي لفترة مؤقتة».
ولفت الموقع إلى وجود إشكالات بين واشنطن وحلفائها العرب، على رأسها رغبة الولايات المتحدة في أن تخرج عن القادة العرب «إدانات أكثر وضوحاً» لحركة «حماس»، وفي أن يتجاوز هؤلاء القادة انقساماتهم حيال ما بات يعرف بـ»سيناريوات اليوم التالي»، ولا سيما في المسائل التي تتّصل بتمويل إعادة الإعمار، حيث تراهن واشنطن على دور عربي في هذه المسألة. وأضاف الموقع، نقلاً عن المصدر نفسه، أن «مفتاح إقناع العديد من الزعماء العرب بالانخراط في التخطيط الجادّ لمرحلة ما بعد الحرب، يتمثّل في العمل على إنشاء دولة فلسطينية، كهدف نهائي»، مؤكداً أن «المسؤولين الأميركيين متحفّزون إلى حدّ كبير للوصول إلى تلك الحصيلة في نهاية المطاف، وإنْ كانوا يركّزون جهودهم في الوقت الراهن على كيفية إعادة الاستقرار في غزة».
وفي السياق نفسه، اعتبر الموقع أن» التحدّي الأكثر صعوبة، يكمن في معرفة الجهة التي ستلعب دوراً في تحقيق الاستقرار هناك» في الفترة الانتقالية التي ستعقب القتال. وفي هذا الإطار، قال مسؤول أميركي، رفض الكشف عن اسمه، إن «الأمم المتحدة يمكن لها أن تلعب دوراً في هذا الخصوص، أقلّه على المستوى الإنساني»، على رغم أن الأمر لا يخلو من عراقيل متعلّقة بالموقف الإسرائيلي المعارض لهكذا دور، على خلفية اتهام حكومة الاحتلال للمنظّمة الدولية بالتحيّز لحساب الفلسطينيين. وبحسب المسؤول نفسه، فإن «رؤية» إدارة بايدن تشي بوجود «حاجة إلى وجود قوّة دولية لتحقيق الاستقرار في القطاع خلال فترة انتقالية» على المدى المنظور، في موازاة «زيادة المساعدات الأمنية» من جانب واشنطن للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، على أن يلي ذلك تسلّم «سلطة فلسطينية معاد تشكيلها» تلك المهامّ على المدى الطويل. وتابع المسؤول أنه «في نهاية المطاف، نرغب في أن يتمّ تشكيل هيكل أمني فلسطيني في غزة» بعد انتهاء الأعمال القتالية، مقرّاً، في الوقت نفسه، بأن كيفية «تحقيق هذا الأمر في غاية الصعوبة، ولا توجد إجابات واضحة أو سهلة عليه».

عراقيل إسرائيلية
كذلك، تحدّث الموقع عن عراقيل أمام مساعي إدارة بايدن، لوضع تلك التصوّرات موضع التنفيذ، ومنها إصرار نتنياهو على احتلال غزة، ووجود سيطرة أمنية إسرائيلية على القطاع مستقبلاً، فضلاً عن رفضه «حلّ الدولتين». وبحسب «بوليتيكو»، فإن تلك التصوّرات التي دفع بها دبلوماسيون أميركيون، سبق أن التقوا نتنياهو، «لاقت مقاومة من جانب الأخير»، ذلك أن «المسؤولين الإسرائيليين غير راغبين في مناقشة فترة ما بعد الحرب». ونقل الموقع عن مسؤول في البيت الأبيض، قوله إن «المسؤولين الأميركيين لم يحالفهم الحظ، كما كانوا يأملون، في حثّ القادة الإسرائيليين على مناقشة ذات مغزى، لرؤيتهم لمرحلة ما بعد حرب غزة»، مؤكداً وجود خشية في البيت الأبيض من أن «يصبح، ومع مرور الوقت، مجرّد الخوض في محاولة تحديد نقطة خروج محدّدة من الحرب، نقطة خلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة». ومع هذا، جزم المصدر الأميركي المسؤول بأنه «لا توجد أيّ مداولات داخل إدارة بايدن، عن تسخير المساعدات العسكرية الأميركية المقدّمة لإسرائيل، كوسيلة للضغط على الأخيرة للموافقة على بعض الأفكار قيد النقاش في واشنطن».