ما قاله فريدمان، يُعدّ عيّنة مجهرية من سلوك نتنياهو تجاه خصومه وحلفائه على حدّ سواء، وهو سلوك اعتاد ممارسته خلال سنوات حكمه، لكنه تفاقم في «عزّ الحرب»، فجعل منه مادّة لتحليلات تسلّط الضوء على مجالات أوسع من شخصيته. وفي هذا المجال، رأى الباحث الإسرائيلي في موقع «تيلِم» (منصة للحوار السياسي البديل)، أفيتار أورون، أن حبّ نتنياهو المستميت للسلطة، استحال «ثقباً أسود ابتلع كل شيء من حوله، حتى كاد يبتلع دولة بكاملها»، معتبراً أنه إذا كانت الحرب على غزة «هي آخر فصول مسيرة نتنياهو السياسية»، فإن «إسرائيليين كُثراً يشعرون هذه الأيام بالتزامٍ أخلاقي لضمان أن تكون فعلاً كذلك». ووصف نتنياهو بأنه «المُفكك الأكبر»، مشيراً إلى أن «احتفاظه بالسلطة أعواماً طويلة، على الرغم من كثرة الإخفاقات والفضائح وقلّة الإنجازات اللافتة، قام على آلية واحدة وبسيطة للغاية، وهي آلية نفسيّة، زرع من خلالها الخوف، في موازاة تشكيل صورته كشخصية أب قوية وموثوقة، باستطاعتها حماية الدولة من التهديدات الأمنية الماثلة أمامها».
وبحسب الباحث، فإن نتنياهو ظلّ يقنع أنصاره لسنوات طويلة، وبطريقة منهجية، برسالة مفادها أنه «إنْ كنتم معي ستنجون، وإنْ لم تكونوا معي فأنتم إلى ضياع. ولذا، أبقى على أعداء يبثّون الرعب، من مثل إيران وحماس»، وهو بالمناسبة ما شدّد عليه في جميع حملاته الانتخابية السابقة. وفي خلال ذلك، تحوّل نتنياهو تدريجياً إلى زعيم «خطير ومنحلّ»؛ إذ دأب على «بث رسائله السياسية - الثيولوجية، على مرّ السنوات، من طريق سيطرته غير المسبوقة على وسائل الإعلام الجماهيرية، ومن خلال القضاء على أيّ أحد أو شيء قد يهدّد صورته الأبوية المهابة أو يجعلها فائضة عن الحاجة»، مقصياً جميع معارضيه، وعلى رأسهم أفيغدور ليبرمان، وجدعون ساعر، وموشيه كحلون، ومبقياً في الوقت نفسه على شخصيات مطيعة ومتملّقة لا تهدّد تفوّقه. كما قضى على خصومه السياسيين من الوسط و«اليسار»، من خلال ترويجهم كجبناء ومهزوزين.
نتنياهو ظلّ يقنع أنصاره لسنوات طويلة: «إنْ كنتم معي ستنجون، وإنْ لم تكونوا معي فأنتم إلى ضياع»
على أن هذه التصفية امتدّت، وفقاً لأورون، لتطاول مؤسسات وبنى تحتية وأنظمة، ما أدى إلى «تآكل عميق في ثقة الجمهور بكل من جهاز الأمن، وجهاز القضاء، ووسائل الإعلام المستقلّة، والمجتمع المدني، وجهاز الرفاه والخدمات الاجتماعية، وقطاع الخدمات العامة، والشرطة، ورقابة الدولة، وجهاز الصحة، وليس انتهاء بالكنيست كمؤسسة مستقلّة»؛ حيث يصعب، بحسبه، «إيجاد مؤسسة عامة واحدة لم يضعفها نتنياهو بشكل منهجي في العقود الأخيرة». أمّا بالنسبة إلى إدارته للوضع الأمني، فاختصرها الباحث بأن نتنياهو كان يعمل على إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه، من دون تقديم حلول جوهرية، غير «(أننا أدركنا الآن) أن أسلوب التعامل الإسرائيلي مع حماس كان قائماً دوماً على اللعب بالنار».
وفي هذا الإطار، يوضح الباحث أن «السياسة التي انتهجها نتنياهو في الساحتَين الفلسطينية والإيرانية طوال فترة حكمه تتّسق تماماً مع هذا (اللعب بالنار)؛ إذ حاول نتنياهو طوال حياته منْع التوصّل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، لأنه في غياب صراع أو تهديد أمني دائم ستقلّ الحاجة إليه كزعيم قوي»، مضيفاً أن سياسته التي قامت على «تعزيز حماس وإضعاف السلطة الفلسطينية»، هي تعبير واضح عن ذلك. كما يتبدّى نهجه أيضاً في معارضته للاتفاق النووي مع إيران؛ إذ «هدف من وراء ذلك إلى الإبقاء على المواجهة معها»، علماً أن معارضته كانت مناقضة لموقف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي اعتقدت أن الاتفاق سيبعد التهديد الإيراني سنواتٍ طويلة، ما سيمكّن إسرائيل عملياً من التفرّغ لمواجهة مشاكل وتهديدات ثانية.
وفقاً لأورون، فإن هجوم السابع من أكتوبر كشف عن وصول إضعاف الأجهزة والمؤسسات إلى مستويات «مروّعة»؛ إذ «لم يستطع حتى أشدّ منتقدي نتنياهو تصوّرها»؛ فالقيادة الإسرائيلية قادت الكيان «إلى هذه «الكارثة»، والجيش الإسرائيلي خيّب الظن والأمل - على المستويَين الاستخباري والعملياتي. كما أن المنظومات العامة، التي من المفترض أن تعمل في أوقات الطوارئ، فشلت فشلاً ذريعاً في الأيام الأولى على الأقل»، وتبدّى فشلها «في تلبية احتياجات الناجين، والتواصل مع أهالي المفقودين والمختطفين والقتلى، وتقديم تعويضات سريعة لمن يحتاجون إليها، فيما الوزارات الحكومية تفشل في عملها. وهذه الفوضى، من أوّلها إلى آخرها، هي صنيعة يدَي نتنياهو، الذي كان دائماً يبني على أن يكون الوضع مخيفاً بدرجة كافية لجعل الجمهور في حاجة إليه، لكن ليس سيئاً لدرجة أن يضطر إلى إثبات قواه الخارقة وأن يُنظر إليه كمسؤول عن الكارثة. والآن فات الأوان بالفعل».
في المحصلة، فإن الكارثة الحالية وفقاً للباحث، «هي أولاً وقبل كل شيء أمنية»، غير أن «انعدام أداء كل الأجهزة في إدارة الدولة، في أزمة فاقعة إلى هذا الحد، يزيد من الضائقة والعجز». وبحسبه، فإن «التفكك القائم ليس نتاجاً ثانوياً غير مرغوب فيه أو ضرراً جانبياً لعمل نتنياهو، بل هو العمل بعينه. هذا هو إرثه، وهكذا تمكّن من أن يُنتخب عدداً من المرات أكثر من أي رئيس حكومة آخر، وأن يحكم فترةً أطول من أي نظير له. أن يُنتخب لكي يُنتخب، وأن يحكم لكي يحكم».
وفي مقالة ثانية له، حملت عنوان «نتنياهو معنيّ بحرب استنزاف في غزة وفي إسرائيل»، رأى الباحث أن «المسافة بين مصالح نتنياهو الشخصية ومصالح إسرائيل الوطنية غير قابلة للالتقاء، وهي تتسع مع مرور الأيام - ليس فقط منذ 7 تشرين الأول، بل في الواقع منذ كانون الأول 2016، عندما بدأت تحقيقات الفساد ضده»، معتبراً أنه «في المرحلة الحالية، أكثر من أي وقت مضى، من الممكن القول ببساطة إن ما هو جيد لإسرائيل سيّئ لنتنياهو، وما هو جيد لنتنياهو سيّئ لإسرائيل. لم يعد بالإمكان تجاهل هذه الحقيقة، أو الافتراض بأن الأمر سيكون مختلفاً هذه المرّة».