باتت جنوب أفريقيا، على خلفية موقفها من القضية الفلسطينية، والحرب الدائرة في غزة، في مرمى نيران الميديا الصهيونية والغربية. إذ بدا لافتاً، منذ مطلع الشهر الجاري، ارتفاع وتيرة الانتقادات التي طاولت بريتوريا، في ما يبدو حملة منهجية تعيد إلى الأذهان أجواء حملات الدعاية في الحرب الباردة.
جنوب أفريقيا و»حماس»: الرواية الصهيونية
أكدت «نقابة الأنباء اليهودية» (JNS) (2 الجاري) وصول وفد من حركة «حماس»، ضمّ كلاً من عضو المكتب السياسي في الحركة، باسم نعيم، وممثّلها في إيران، خالد قادومي، إلى جانب عماد صابر الذي وصفته بممثّل «حماس» في شرق ووسط وجنوب أفريقيا، إلى جنوب أفريقيا للمشاركة في الاجتماع العالمي الخامس للتضامن مع فلسطين. وأعلنت أن الوفد سيقابل «ممثّلين عن أحزاب سياسية وجماعات مجتمع مدني وحركة التضامن مع فلسطين». وعلى هذه الخلفية، انتقدت «النقابة»، جنوب أفريقيا بقوّة بوصفها «واحدة من الدول القليلة التي لا تتعاطف فحسب مع القضية الفلسطينية»، لكنها تعترف أيضاً بـ»حماس» «ممثّلاً شرعيّاً» للشعب الفلسطيني. من جهتهم، فنّد مسؤولون في الحكومة الجنوب أفريقية الرواية الصهيونية، مذكّرين بأن الأمم المتحدة لا تصنّف «حماس» منظمة إرهابية، حتى تحول بريتوريا دون دخول ممثليها.
وكانت وسائل إعلام إسرائيلية قد حمّلت «حزب جبهة الحرية الاقتصادية» بقيادة جوليوس ماليما (رئيس الحزب) الشعبوية، مسؤولية صدور قرار في البرلمان لمصلحة إغلاق السفارة الإسرائيلية في البلاد، مذكّرة بمواقف ماليما المناهضة لإسرائيل، بما فيها اتهامه مدرسة «هرتساليا العليا» (كيب تاون) بأنها «مدرسة مغذية لجيش الدفاع الإسرائيلي». لكن هذه الرواية المتهافتة وغير الواقعية، لا تصمد أمام عدة حقائق في تاريخ جنوب أفريقيا منذ إتمام عملية التحوّل الديموقراطي (1993-1994)؛ منها وجود تضامن «أسود» أصيل مع القضية الفلسطينية في أوساط أهمّ التنظيمات العمالية والسياسية، من مثل «اتحاد نقابات جنوب أفريقيا»( Cosatu) (الذي شارك في الائتلاف الثلاثي الحاكم مع «الحزب الشيوعي»، و»حزب المؤتمر الوطني» الأفريقي، في أول انتخابات ديموقراطية تشهدها البلاد)، و»الاتحاد الوطني لعمال المعادن» في جنوب أفريقيا (NUMSA)، والحزب الحاكم بقيادة الرئيس سيريل رامافوسا. كما يرى مراقبون جنوب أفارقة (جريدة IOL) أن خطوات بلدهم المتشدّدة إزاء إسرائيل متأثّرة بالسياق التاريخي ونضال الأفارقة ضدّ نظام الأبارتهيد، مسلّطين الضوء على التقارب المدهش إلى حدّ التطابق مع النضال الفلسطيني الحالي في مواجهة الدولة الصهيونية، فيما تحرص بريتوريا على انتهاج سياسة خارجية مستقلّة تعزّز مكانتها الإقليمية والدولية وتزيد من ثقة القوى الفاعلة في الجنوب العالمي (ولا سيما الصين والبرازيل في الحالة الراهنة) بها.
وبالنتيجة، فإن الميديا الصهيونية، التي تتقن القفز فوق البديهيات وتلفيق «الحقائق»، تكثّف راهناً حملتها ضدّ جنوب أفريقيا كوسيلة ربّما أخيرة في يد حكومة بنيامين نتنياهو لابتزاز بريتوريا، ودفعها إلى تخفيف تشدّدها، وربّما التراجع عن المضيّ قدماً في مسار التصعيد مع إسرائيل، في مقابل تخفيف التصعيد الإعلامي، ولا سيما أن البلاد ستشهد انتخابات عامّة في عام 2024.
مقولة مانديلا الشهيرة: «حريّتنا تظلّ منقوصة من دون (نجاح) النضال الفلسطيني»، لا تزال تتردّد بشكل كبير في أوساط قطاعات كبيرة من المواطنين الجنوب أفارقة


الغرب وشيطنة جنوب أفريقيا: في ركاب إسرائيل
تأتي المواقف الغربية الأخيرة إزاء جنوب أفريقيا متّسقة بشكل مثير للدهشة مع نظيرتها الصهيونية، وعنوانها أن سياسات بريتوريا الخارجية لا تزال عالقة في الحرب الباردة في الستينيات، وأنها أكثراً قرباً «من نظم قمعية مثل كوبا وفنزويلا وإيران وفلسطين»، وأنها تتبنّى مقاربة متناقضة، كونها تَعتبر إسرائيل «تجسيداً استعمارياً للإمبريالية الغربية»، فيما تدّعي دعمها لحلّ الدولتين. لكن هذه المواقف تتناقض كلّيةً مع حقيقة تبنّي حكومة «المؤتمر الوطني» سياسات خارجية براغماتية لا لبس فيها، وناجحة إلى حدّ كبير، في موازنة علاقاتها مع مختلف القوى الدولية المؤثّرة، في حين أن موقفها من الحرب الحالية، في فلسطين (وقبله موقفها المحايد إزاء الأزمة الروسية - الأوكرانية)، يقوم على اعتبارات مصالحها الوطنية ورؤيتها لدورها كقوّة إقليمية بارزة ليس في أفريقيا فحسب، لكن في تقاطعات أفريقيا مع بقية القوى الكبرى في العالم. وتقود الولايات المتحدة هذا التوجّه تجاه جنوب أفريقيا منذ ما قبل الأزمة في فلسطين، وهو ما بدا واضحاً في أيار الماضي عندما بادر السفير الأميركي في بريتوريا، إلى اتهام الأخيرة - من دون أدلّة تُذكر - بأنها أمدَّت سرّاً روسيا «بأسلحة يمكن أن تكون قد استخدمت ضدّ أوكرانيا»، في ما عُرف لاحقاً بحادث السفينة «ليدي آر» المملوكة لشركة «ترانسمورفلوت» (Transmorflot) (الخاضعة لعقوبات أميركية منذ عام 2022)، وما قاد إليه من جهود مشرّعين أميركيين لربط «الحادث» بتمديد «قانون الفرصة والنمو الأفريقي» (AGOA)، نهاية العام الجاري. لكن ثبت لاحقاً تعمُّد الخارجية الأميركية إثارة بلبلة لا أساس لها من الصحة، بعد قطع لجنة قضائية جنوب أفريقية، منتصف العام الجاري، بعدم صحّة الاتهام، وإقرار البيت الأبيض بعد ذلك بوقت وجيز بصحة حكم اللجنة، وتوجيهه الشكر إلى الرئيس رامافوسا.
ويفسّر السلوك المتقدّم استمرار الهجوم الأميركي، في الأساس عبر الميديا الأميركية، من وقت إلى آخر على بريتوريا، وتعظيمه راهناً في ضوء مواقف الأخيرة من القضية الفلسطينية. كذلك، يتجلّى هذا التربّص الغربي، وفق ما يتّضح في الميديا على الأقلّ، في تدبيج منصّة من مثل «بي بي سي» عنواناً مضلّلاً، أو استباقياً بشكل كبير: «جنوب أفريقيا: الإقليم الذي يتصاعد فيه العنف السياسي قبيل الانتخابات»، فيما صدّرت «فايننشال تايمز» (1 كانون الأول) عنواناً لافتاً هو: «البحث عن نيلسون مانديلا حقيقي»، قبيل حلول ذكرى وفاته العاشرة (5 الجاري).

جنوب أفريقيا وعالم أكثر مساواة: فلسطين على الأجندة
عزّزت جنوب أفريقيا، في نهاية العام الجاري، خطابها السياسي الداعي إلى نظام عالمي جديد أكثر توازناً، وذلك على هامش انعقاد الاجتماع التاسع للجنة الدفاع الصينية - الجنوب أفريقية (29 تشرين الثاني - 3 كانون الأول)، وما شهده من تبادل لوجهات النظر حول «المسائل ذات الاهتمام المشترك، بما فيها الوضع الأمني الدولي والإقليمي»، إضافة إلى مسألة الدفاع الوطني في البلدَين، والتعاون العسكري بينهما وتوقيعهما العديد من وثائق التعاون. وقد حلّت فلسطين وقضاياها في قلب هذا الاجتماع، حيث تتقلّد الصين، الشهر الجاري، رئاسة مجلس الأمن. كما يلاحظ بشكل متصاعد تطابُق رؤية الجانبَين إزاء الملفّ، إذ تعبّر بكين (التي دعت إلى عقد اجتماع رفيع المستوى لمجلس الأمن في 29 تشرين الثاني، بالتزامن مع التضامن العالمي مع فلسطين) باستمرار عن وقوفها في صف السلام والعدالة ودفع مجلس الأمن إلى الاضطلاع بمسؤوليته تجاه فلسطين. وقد حظيت مساعيها للتوصّل إلى تسوية سياسية لـ»المسألة الفلسطينية - الإسرائيلية» بتقدير لافت من الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرتش، وهو الأمر الذي يدفع بريتوريا إلى التمسّك بمواقفها التي تعزّز بشكل مباشر مكانتها في «الجنوب العالمي»، وجهود تغيير شكل النظام العالمي القائم منذ نهاية الحرب الباردة.
كذلك، يُلاحظ أن ديبلوماسية بريتوريا تجاه القضية الفلسطينية ككلّ وليس الأزمة الحالية فقط، ترتبط بشكل واضح بإرث «حزب المؤتمر الوطني»، وبصلات قيادته التاريخية الأبرز بعد التحوّل الديموقراطي (نيلسون مانديلا) بـ»منظّمة التحرير الفلسطينية»، وزعيمها الراحل ياسر عرفات، وأن مقولة مانديلا الشهيرة: «حريّتنا تظلّ منقوصة من دون (نجاح) النضال الفلسطيني»، لا تزال تتردّد بشكل كبير في أوساط قطاعات كبيرة من المواطنين الجنوب أفارقة.