رام الله | منذ السابع من أكتوبر، يواجه فلسطينيّو الداخل المحتلّ حرباً قوامها الملاحقات والاعتداءات والاعتقالات والاستدعاءات للتحقيق، فضلاً عن حرمانهم من التعليم وفصلهم من العمل بشكل تعسفي، في إجراءات اشتدّت وطأتها في موازاة العدوان على غزة. ويسعى الاحتلال من وراء إجراءاته تلك، إلى كبح أيّ هبّة محتملة لهؤلاء، على غرار «هبّة الكرامة» التي رافقت معركة «سيف القدس» عام 2021، والتي صدمت إسرائيل واستطاعت إرباك منظومتها الأمنية والاستخبارية والسياسية، وأضاءت اللون الأحمر في دوائر صناعة القرار، ليس لكونها لم تكن متوقّعة فحسب، بل لخطورة أيّ هبّة في الداخل وتداعياتها الاستراتيجية، باعتباره ساحة مواجهة تفوق ساحات الضفة الغربية وغزة خطراً.مذّاك، تنبّهت تلك المنظومات لسيناريوات تكرار «هبّة الكرامة» إذا ما اندلعت مواجهات مع قطاع غزة أو مع «حزب الله»، ما دفع إسرائيل إلى المسارعة، منذ اليوم الأول من عملية «طوفان الأقصى»، إلى إعلان حالة الطوارئ وتفعيل القوانين الانتدابية تحت ذريعة «مكافحة الإرهاب»، استباقاً لأيّ حَراك تضامني لفلسطينيي الداخل، يمكن أن يضعهم في «دائرة الإرهاب» من وجهة نظر المؤسسة الإسرائيلية. وكانت إسرائيل قد حدّثت قانون «مكافحة الإرهاب»، في عام 2016، ليتيح محاكمة أيّ شخص بذريعة دعم ما تعتبره «أعمالاً إرهابية»، وفرض عقوبات طويلة بالسجن إذا ما شارك أحدهم في تظاهرات أو عبّر عن رأيه، أو حتى كتب منشورات في شبكات التواصل الاجتماعي، اعتُبِرت «تحريضية».
على هذه الخلفية، اعتقلت شرطة الاحتلال أكثر من 400 شخص، وحوّلتهم إلى التحقيق بزعم «دعم منظّمات إرهابية»، و«التحريض» والتماهي مع حركة «حماس» عبر منشورات في شبكات التواصل الاجتماعي، بينما قدّمت لوائح اتهام ضدّ أكثر من 60 شخصاً. هكذا، بات تشديد الملاحقة السياسية والقضائية بحقّ فلسطينّيي الداخل من قِبل أجهزة الاحتلال الأمنية والاستخبارية هو الأداة الأقسى التي استخدمتها إسرائيل ضدّهم لمنعهم من التضامن مع غزة، وتحت غطاء استخدام «أنظمة الطوارئ» في ظلّ الحرب، فضلاً عن مصادقة «الكنيست» على قانون يحظر على الأفراد «استهلاك المحتوى والمضامين الداعمة للإرهاب»، وفرض عقوبة السجن الفعلي لمدّة عام على مَن يدان بذلك. وفيما سيبقى هذا القانون سارياً لمدّة عامين مع إمكانية تمديده، صادقت اللجنة الوزارية للتشريع على توسيعه، ومنح صلاحيات لوزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، للإعلان عن أيّ مواطن باعتباره «ناشطاً إرهابيّاً»، وصياغة مذكرة قانون يجيز سحب الإقامة والجنسية من مواطنين إسرائيليين بزعم «التحريض على الإرهاب ودعمه في وقت الحرب».
ولم تقتصر الملاحقة على المستويات الأمنية، بل تعدّتها إلى التحريض على قتل الفلسطينيين وطردهم من قِبَل الجماعات اليهودية المتطرفة. وطاول ذلك طلبة الجامعات والموظّفين في المؤسسات الحكومية والقطاعات الخاصة، والذين تعرّضوا للطرد بسبب منشورات على وسائل التواصل، بالتزامن مع تسليح المستوطنين الذين لن يتوانوا عن شنّ هجمات على الفلسطينيين، حيث يسود اعتقاد بأن تنفيذ هذه المرحلة ليس إلا مسألة وقت. كما يُعتقد أن كل السياسات والإجراءات والقوانين الممارسة ضدّ الفلسطينيين، سواء بتكثيف عمليات هدم المنازل أو مصادرة الأراضي أو الملاحقة والاعتقال والطرد من أماكن الدراسة والعمل والتمييز ضدّهم، ستدفع الأوضاع إلى الانفجار.
تماهت المنظومة القضائية الإسرائيلية مع تحريض المستوطنين والمناخ الفاشي السائد ضدّ الفلسطينيين


وفي هذا السياق، يصف الكاتب والمحلّل السياسي من الداخل المحتل، أليف صباغ، في حديث إلى «الأخبار»، الوضع في الـ 48 بـ«المأسوي أكثر من أيّ مرحلة سابقة، حيث لا يزال العشرات من الشبان موقوفين لدى الاحتلال، ومنهم من صدرت بحقهم أحكام بالسجن بذرائع واهية»، مشيراً إلى أن ذلك «يترافق مع تحريض كبير من قِبَل المستوطنين على الفلسطينيين، والتظاهر أمام منازلهم، على غرار ما حدث أمام منزل الفنانة دلال أبو آمنة في بداية الحرب، إلى جانب فصل الفلسطينيين من العمل، والتحريض على الطلبة في المدارس والجامعات». ويؤكّد صباغ أن «شرطة الاحتلال شدّدت قبضتها في التعامل مع الفلسطينيين، ورفضت منذ بدء العدوان منح ترخيص لأيّ تظاهرات ضدّ الحرب، وهي تمنع خروج تظاهرات تلقائية ولن تجد صعوبة في إطلاق النار عليها بحجة إغلاق الشوارع او إعاقة العمل».
وتماهت المنظومة القضائية الإسرائيلية مع تحريض المستوطنين والمناخ الفاشي السائد ضدّ الفلسطينيين، والذي رفضت محكمة الاحتلال العليا، في ضوئه، طلباً تقدّمت به «لجنة المتابعة العربية» للحصول منها على ترخيص للتظاهر ضدّ الحرب. وفي هذا الإطار، يقول صباغ: «يمكن للمستوطنين أن يخرجوا بتظاهرات بعشرات الآلاف وسط تل أبيب، ولكن أن يخرج 10 فلسطينيين في تظاهرة أو وقفة على رصيف شارع ضدّ الحرب وليس تأييداً لأحد فهذا ممنوع». ويتابع أن «المحاكم الإسرائيلية تتعامل مع العرب بشكل عدائي، إذ لا تتم محاكمة المستوطنين الذين يحرّضون على القتل والعنف، وقد كانت حجّة القضاة في ذلك أن المحكمة لا تحاكم العام (الأغلبية) المؤيّد للحرب والقتل، وإنّما تحارب الاستثناء الذين يعارضون الحرب». ويرى صباغ أن «المناخ العام في المجتمع الإسرائيلي ولدى النظام الحاكم بات فاشياً، ويستمدّ شرعيته من القوانين المستجدّة والمنبثقة من قانون الطوارئ والمحاكم والقضاة»، لافتاً إلى أن هذا المناخ «سبّب رادعاً لدى الجمهور الفلسطيني في داخل الخط الأخضر».
وينتقد صباغ القيادة السياسية العربية في الداخل المحتلّ، قائلاً إنها «ليست على المستوى المطلوب، ولم تحضّر نفسها لهذه الحالة»، عازياً حالة «الضعف» تلك إلى «ما شهدته السنوات الأخيرة من تفكيك للأحزاب العربية وتحوّلها إلى أحزاب لجمع الأصوات في انتخابات الكنيست»، وهي عوامل أدّت، بحسبه، إلى «تركيز القوّة في يد أعضاء الكنيست، على حساب لجنة المتابعة العربية التي تراجع دورها وضعفت». ويضيف أن «المجتمع العربي داخل الخط الأخضر مفكّك، وهذا ينطبق أيضاً على القيادة السياسية، بينما أعضاء الكنيست العرب لا حول لهم ولا قوّة»، إذ في ظلّ هذا الوضع «من الصعب» على هؤلاء التظاهر، على حدّ قوله.
كذلك، ينتقد صباغ ما يعرف بـ«لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية»، موضحاً أنها «لا تريد أيّ صدام أو خروج تظاهرات، وتسعى إلى استرضاء الحكومة»، مضيفاً أنه «في ظلّ هذا الواقع والأداء من قِبل هذه اللجنة، عُدنا إلى ما كنّا عليه عام 1974، الذي شهد تشكيل الحكومة الإسرائيلية لهذه اللجنة حتى تسيطر على الناس، لكن يوم الأرض جاء وصحّح دورها لتتحوّل اللجنة بعد عام 1980 إلى لجنة المتابعة العربية، والتي عادت اليوم إلى ما كانت عليه بأدائها ووظائفها». ويستدرك بأنه «ضمن هذا الدور، التقت اللجنة قبل أيام، في لقاء هادئ ولطيف، مع عضو مجلس الحرب بيني غانتس». وحول عملية «الردع» التي مارستها أجهزة الاحتلال عقب «هبّة الكرامة» ومدى تأثيرها اليوم، يقول صباغ إن «محاكم الاحتلال أصدرت أحكاماً تعسفية جداً ضد النشطاء والشبان، وصلت إلى السجن 17 عاماً، وهو مستوى من الاستهداف لم يسبق له مثيل. كان لهذا دور كبير في ردع أيّ شاب عن الخروج إلى الشارع للتظاهر، وخاصّة في ظلّ عدم توفّر أيّ غطاء سياسي له، على غرار ما حصل مع الشبان الذين اعتقلوا عام 2021».