مع شنّ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الحالي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، دخلنا جميعاً فلسطينيين وعرباً في هذه الحرب، نتلقّى أوجاع الأهل في غزة، نتألّم مع ألمهم، ونصرخ باسم أوجاعهم، لكننا لا نُجرح ولا نُستشهد كما يُجرحون ويُستشهدون. اللهم إلا في الجنوب اللبناني، حيث ارتقى أكثر من 90 شهيداً، معظمهم من المقاومين، وعدد من المدنيين بينهم أطفال ونساء، حتى (مساء 7/12).وعدد من الشهداء في الجولان السوري المحتل، آخرهم 4 أمس الجمعة.
دخلت الهدنة في الأسبوعين الأخيرين حيّز التنفيذ، دخلنا أيضاً في الهدنة، وشعرنا بهدأة ما في النفوس، وغضب من هول الصور التي خرجت من قطاع غزة، تلك التي أظهرت حجم الدمار في نحو 60% من القطاع. ومع ذلك ظل الإيمان بأن الشعب الفلسطيني هناك لن ينكسر ولن ينهزم. لكن ظل علينا أن نرفع رايات حرية فلسطين وغزة في كل مكان، باسم الحياة ورفضاً للموت والإبادة، لذلك في الهدنة كما الحرب، كما في زمن اللاحرب والهدوء النسبي، علينا في الخارج ألا نتوقف عن ذكر فلسطين كل يوم، كالوضوء والصلاة، وعلينا ألا ننسى ولا نتناسى.
ولمّا انقضت الهدنة، وعادت الحرب، عدنا. كانت هذه العودة التي نعيشها حتى اللحظة، بين الصواريخ والقنابل والدمار الهائل الذي تحدثه آلة الحرب الإسرائيلية في الشعب الفلسطيني في قطاع غزة الذي استشهد فيه أكثر من 16.247. وهذه عودة سلّطت الضوء بقوة على الضفة الغربية، على أكثر من 266 شهيداً، استشهدوا في أماكن مختلفة في الضفة، بأنواع عدة من الأسلحة، منها قصف الطيران. وأمام كل هذا، لم يغلق حديث التهجير من قطاع غزة، أو إعادة رسم التوزّع السكاني فيه. كل هذا ونحن نعيش ذلك الوجع، ولا نفعل أكثر من كتابة هنا وهناك، والشعور بالألم، والشعور بالطمأنينة مع الفيديوهات التي تنشرها المقاومة بين يوم وآخر، وهي تبادر باستهداف الغزاة، وترد عليهم.
المقاومة معنيّة بتفكير الناس وانكسارهم وإحباطهم، كما هي معنيّة بانتصارها وانتصار الفلسطينيين والعرب وأحرار العالم


هذه المقاومة التي تنطلق من معالجة مبسّطة للأمور لا نمتلكها، تقوم على قاعدة واضحة لا غبار عليها، وهي مواجهة الاحتلال أينما كان، فوجوده لا يمكن أن يكون مقبولاً، والحل معه فقط في المواجهة. هذه القاعدة الجوهرية، يمكن فهمها بعنوانها العريض، على أساس رفض الاحتلال، والإيمان بالحرية والتحرر. لكن في بعض الأحيان، مع خروج المشاهد المؤلمة، نجد أنفسنا ننحاز إلى الانكسار والإحباط، وهذا جائز، ومرد ذلك إلى تعقيد المشهد، والتفكير المعقّد به، والأهم الخوف من تكرار ما حلّ في الشعب الفلسطيني في عامَي النكبة والنكسة، فتلك المرحلة تحديداً موجودة في نفوس الناس، وصورها حاضرة. لكن مع بقاء الشعب الفلسطيني والعربي كل تلك السنوات، على قدم النضال والإيمان بالقدرة على مواجهة الاحتلال، فإن تفكيراً حقيقياً بات موجوداً بالتمكّن من تجاوز تلك المعضلات والحواجز في الذاكرة والوجود. مع ذلك، المقاومة معنية بتفكير الناس وانكسارهم وإحباطهم، كما هي معنيّة بانتصارها وانتصار الفلسطينيين والعرب وأحرار العالم، ومطلوب منها تقديم التطمينات وتبسيط المشهد والحالة للجميع، عبر تقديم خطاب خاص للناس الملتفّين حولها، خطاب يوضح الأمور ببساطتها، ويوضح الفهم للتضحيات، ويعبّر عن الإيمان المتبادل القائم بينها وبين الناس، فالمقاومة من دون الناس في داخل فلسطين وخارجها لن تكون ولن تستطيع مع الاحتلال صبراً، مهما بلغت قوتها وضراوتها.
إن هذا الخطاب المطلوب، هو خطاب ليس للمواجهة، بل للضمّ، ضمّ الأم لأولادها وأحفادها. فالكلام الذي سيتناول اسم عز الدين القسام عليه أن يقول بأن هذا الاسم تعبير عن البعد القومي للمقاومة، فهو ابن مدينة جبلة السورية، والخطاب الذي سيذكر المقاومين عليه أن يرسل رسالة إلى قلوب الشعوب العربية في ما يمسّ ذاكرتها الخالدة بانتصاراتها على الاستعمار، فهذه الأمور التي تحرّكها، وكلام آخر لا بد منه، أن أرض فلسطين أرض المسيح عليه السلام، فيها كنيسة المهد والقيامة وكنائس أخرى في جوهر الدين المسيحي، وهناك حملة شرسة على المسيحيين في فلسطين لتهجيرهم، فيجب إرسال رسالة إلى المسيحيين في العالم كل العالم، عن هذه الأرض التي تعني قلوبهم وأرواحهم، والكلام أيضاً للأحرار في العالم، ليس بالجملة فقط، بل بتوضيح أسباب النضال الفلسطيني المستمر منذ 75 عاماً في سبيل الحرية لفلسطين وشعبها في الداخل وشعبها المشتّت، وفي سبيل حرية الشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم. فأن تصبح فلسطين حرة، يعني أن فهماً جديداً للحرية في العالم سينشأ، وعلى المقاومة أن تنتبه لهذه المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقها وعلى الشعب الفلسطيني وعلى كل من يجد نفسه معنيّاً بأن يكون حراً في عالم حر.
* صحافي فلسطيني