ليست الوحشية الإسرائيلية الممارَسة، منذ ما يزيد على شهرين، من بدء حرب الإبادة في قطاع غزة، مستغرَبة، لكنها قد لا تشبه أيّاً من الفظائع التي سبقتها. فقد خرجت الحرب من سياقها العسكري، ومن صورتها النمطيّة المطبوعة في أذهان الفلسطينيين أنفسهم، ولم يَعُد في الإمكان فَهْم السلوك الإسرائيلي على أنه ترجمة لرغبة الانتقام وتدفيع الثمن والثأر فحسب، فحتّى الغابة فيها قانون. أمّا الجحيم الذي صنعته إسرائيل في غزة، فيكشف أولاً وأساساً عن ذهنية صانعه، بدءاً من المستويَين السياسي والعسكري، مروراً بوسائل الإعلام العبرية التي تعجّ بمقالات تنظّر للإبادة، وكذلك بسعادة المجتمع الإسرائيلي لمشاهد الأطفال الشهداء وأشلاء الأمهات والمنازل المفتّتة والسخرية من حرب التجويع، وليس انتهاءً بجنود الجيش الإسرائيلي، واحتفالاتهم داخل منازل الفلسطينيين التي سرقوها.وانتشرت، أول من أمس، صور ومقاطع مصوّرة تُظهر اعتقال جيش العدو عشرات المدنيين من الذكور، بينهم أطفال لم يتجاوزوا الـ 15 من عمرهم، ومراسل قناة «العربي الجديد» ضياء الكحلوت، واقتيادهم من منازلهم عنوةً، ومن مدرسة تؤوي النازحين في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وذلك بعدما تحدّث شهود عيان عن أن جنوداً إسرائيليين أعدموا آباءً فلسطينيين أمام أطفالهم وزوجاتهم، ثم أمروا الأخيرين بالنزوح جنوباً ليخبروا بما رأوا. أمّا المعتقلون، فقد عرّاهم جنود الاحتلال، مجبرين إيّاهم على خلع أحذيتهم قبل صفّهم وسط شارعٍ، والتقاط صور مهينة ومُذلّة لهم، ثم وضعهم في شاحنة، وأخذهم إلى جهة مجهولة. وفيما لا يزال مصير هؤلاء غير معروف، فقد تناقلت قنوات «تلغرام» العبرية أنهم أودعوا السجون الإسرائيلية.
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، شكّك بعض الإسرائيليين في أن يكون هؤلاء مقاومين؛ إذ تساءلوا: «أين أسلحتهم إنْ كانوا مقاتلين في حماس؟». ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يطلبوا من جيشهم، في تعليقات مثيرة للاشمئزاز، تصفية المعتقلين وإعدامهم، لأنهم «خنازير نازيون»، وأساساً أجسادهم لا تقنع مجتمع الإبادة بأنهم جوعى، فقد قال بعض الإسرائيليين بهزء: «اعدموا الدبب، من الواضح أن لديهم مجاعة هناك».
وجد بن غفير أن كل التعذيب الممارَس بحقّ الأسرى الفلسطينيين «غير كافٍ»، فأوعز بزجّ «نخبة القسام» في سجن تحت الأرض


أمّا المشاهد التي لا تقلّ فظاعةً، فقد وثّقتها مقاطع صوّرها الجنود أنفسهم، وانتشرت على قنوات «تلغرام» العبرية، وفيها تفاخر هؤلاء بسرقة بيوت فلسطينيين، حيث تقيم سرايا إسرائيلية كاملة في قلب هذه البيوت، وتنام على فرش أصحابها، وتستخدم أغراضهم، وتقيم الاحتفالات والصلوات على موائدهم. وفي أحد البيوت الواقع على ما يبدو فوق تلة تشرف على شمال غزة، استقدم الجيش، أمس، رافعة ضخمة لنصب شمعدان يزن أطناناً، ويرتفع أمتاراً عن الأرض لإضاءته احتفالاً بعيد «الحانوكا» اليهودي (الأنوار)، حتى يرى كلّ مَن بقي من الفلسطينيين في الشمال، هذا الشمعدان. تضاف إلى ما تقدَّم حفلات الرقص في القواعد العسكرية وأماكن الانتشار والتموضع؛ حيث يحضر «الفنانون» الإسرائيليون لإقامة حفلات للترفيه عن جنود الإبادة، على ألحانٍ مسروقة من أغانٍ عربية، تضاف إليها كلمات الانتقام والثأر وقتل الفلسطينيين.
أمّا وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، فوجد أن كل التعذيب الممارَس بحقّ الأسرى الفلسطينيين، والذي أدى إلى استشهاد ستة منهم منذ بدء الحرب، «غير كافٍ»، فأوعز بزجّ من سمّاهم عناصر «نخبة القسام» الذين اعتقلوا في السابع من أكتوبر، في سجن تحت الأرض لم يُستخدم منذ سنوات عديدة. وفيما لم توضح سلطات الاحتلال مكان اعتقال هؤلاء، ممتنعةً عن الإدلاء بأيّ معلومات تخصّهم، في ظلّ غموض حول ما إنْ كانوا أساساً عمالاً أو مدنيين أو صحافيين، فُقدت آثارهم منذ بدء «طوفان الأقصى»، أوعز بن غفير، أمس، إلى مفوضة السجون، كيتي بيري، باحتجاز الأسرى الذين تحدث عنهم، في سجن تحت الأرض. وأضاف، في بيان: «النازيون لا يستحقّون قطرة من ضوء الشمس، بينما رهائننا يجلسون في أنفاق الجحيم». وإذ لم يتطرّق الوزير المتطرّف إلى مكان السجن واسمه، فقد كشف موقع «واينت» أن هذا الأخير يقع في مدينة الرملة المحتلّة، وفي الإمكان احتجار مئة معتقل في داخله. والسجن المذكور هو عبارة عن قبور تحت الأرض تقع في أحد أقسام معتقل «نيتسان»، أحد أقسام سجن الرملة، وافتتح في عام 1978، لكنه مستقلّ ويدار بواسطة أنظمة وظروف مختلفة عن بقية السجون، علماً أن الأسرى الفلسطينيين من غزة، يحتجزون في ظروف وحشية، بينها النوم على أسرة من حديد، وقطع الكهرباء والماء، والتجويع والتعطيش، فضلاً عن التعذيب بالموسيقى؛ إذ تبث إدارة السجن «النشيد الوطني الإسرائيلي» (هتكفا) على مسامعهم، منذ اعتقالهم، 24/7.
أمّا بالنسبة إلى محاكمة هؤلاء، الذين منعتهم سلطات الاحتلال أصلاً من لقاء محامين أو استشارتهم، فقد لفتت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية (كان 11) إلى أن رئيس المعهد الإسرائيلي للطبّ الشرعي، حاين كوغل، اجتمع، خلال الأسبوع، مع كبار المسؤولين في وحدة «لاهف 433» ومكتب المدعي العام، والجيش الإسرائيلي، و«الشاباك»، لمناقشة قاعدة الأدلّة التي سيعتمد عليها لتوجيه الاتهامات. وفي التفاصيل، تبيّن خلال الاجتماع أن معظم جثث القتلى الإسرائيليين التي أحضرها متطوّعو «زاكا» (منطمة إسرائيلية من المتطوّعين لتحديد ضحايا الكوارث) إلى معسكر «شورا»، لم تُفحص بواسطة طبيب شرعي، ودفنت مع ذلك. وبالتالي، سيعتمد إعداد التقارير على صور لهذه الجثث، ما يعني أنه إنْ كان سبب مقتلهم هو قصف مدفعي أو من طيران إسرائيلي كما كشفت تقارير عبريّة وشهادات ناجين إسرائيليين من هجوم يوم السابع من أكتوبر، فسيكون اللوم على المعتقلين الفلسطينيين من غزة، الذين تدّعي إسرائيل أنهم من «نخبة القسام»، من دون وجود أدلّة على ذلك. ووفقاً لهيئة البث الرسمية، فإن السلطات الإسرائيلية المعنية لم تضع بعد خطّة قضائية لمحاكمة المعتقلين، فيما رشح أنه سيُسنّ لهم قانون خاص يتيح فرض عقوبات استثنائية قد تكون إحداها الإعدام.