تَركت عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر، انعكاساتها على المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في الولايات المتحدة، كان الشاهد عليها ازدياد مظاهر التضامن مع القضية الفلسطينية، على شكل تظاهرات جابت شوارع المدن، وباحات الجامعات. وانقسمت هذه الأخيرة، بدورها، بين المؤيّدين للفلسطينيين، ومعظمهم من الطلاب، وبين الداعمين لإسرائيل، ومعظمهم من أعضاء هيئة التدريس، وداعميها من المتموّلين الأثرياء. وفي هذا الإطار، انطلقت حملة ضغوط شرسة على أيدي كبار رجال الأعمال المموّلين للجامعات الأميركية، وفي طليعتهم رجل الأعمال، وأحد كبار مموّلي جامعة "بنسلفانيا"، روس ستيفنز، والذي سبق أن هدّد بسحب تبرّعات للجامعة مقدّرة بمئة مليون دولار، أسوةً بعدد من كبار المانحين المؤثّرين ممَّن سحبوا دعمهم المالي لـ"بنسلفانيا"، ودعوا رئيستها إلى الاستقالة، بدعوى سماح إدارة الجامعة بتنظيم "مهرجان الأدب الفلسطيني" في أيلول الماضي. كما أن سياسيين أميركيين من الحزبَين الديموقراطي والجمهوري، أشرفوا أخيراً على طرْح مشروع قانون يساوي ما بين "معاداة السامية"، و"معاداة الصهيونية"، من بينهم النائبة عن ولاية كارولينا الشمالية عن الحزب الجمهوري، رئيسه "لجنة التعليم والقوى العاملة" فيرجينيا فوكس، التي دعت إلى التحقيق في "بيئات التعلُّم" في جامعات "هارفارد" و"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" و"بنسلفانيا"، مهدّدة باتخاذ "الإجراءات التأديبية"، و"إصدار مذكّرات الاستدعاء"، بدعوى "الاستهداف والمضايقة المثيرة للاشمئزاز للطلاب اليهود" في الجامعات. وإلى جانب فوكس، برزت السناتور عن ولاية نيويورك عن الحزب الديموقراطي، كريستين جيليبراند، التي استنكرت في أكثر من مناسبة ما اعتبرته "الدعوة إلى الإبادة الجماعية لليهود".في هذه الأجواء، عقد الكونغرس، أخيراً، جلسة استماع لكلّ من رئيسة جامعة "هارفارد"، كلودين جاي، ورئيسة جامعة "بنسلفانيا" ليز ماجيل، ورئيسة "معهد ماساشوستس للتكنولوجيا"، سالي كورنبلوث، حيث أدلين بإفاداتهن أمام "لجنة التعليم والقوى العاملة" في مجلس النواب، في جلسة حملت عنوان "محاسبة قادة الحرم الجامعي ومواجهة معاداة السامية". وخلال الجلسة، التي شهدت عرض مقطع فيديو قصير لمتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الثلاث، يدعون إلى "الانتفاضة"، توجّهت النائبة الجمهورية عن ولاية نيويورك، إليز ستيفانيك، بسؤال إلى المستجوبات الثلاث، مستفسرةً عمّا إذا كان يمكن تفسير ما ورد في المقطع المذكور على أنه "دعوة إلى العنف ضدّ إسرائيل وأولئك الذين يدعمونها"، وعمّا إذا كان "متوافقاً مع مدوّنة وقواعد السلوك في جامعاتكم؟". وفي معرض إجاباتهن عن أسئلة اللجنة، دانت رئيسات الجامعات الثلاث ما سمّينه "هجوم حماس" و"الحوادث المعادية للسامية" في الحرم الجامعي، إلى جانب تعهّدهن بالعمل فوراً، وعلى المدى الطويل لمكافحة "الكراهية" بجميع أشكالها، ولا سيما "معاداة السامية"، و"الإسلاموفوبيا". ومع ذلك، تفادت الرئيسات الثلاث الإجابة بـ"نعم" أو "لا" على بعض الأسئلة، بخاصّة تلك المتعلّقة بإدانة المظاهر التضامنية مع الشعب الفلسطيني في الجامعات الأميركية، إذ عمدن إلى تقديم ردود في معرض الحرص على احترام حرية التعبير، بما في ذلك الآراء المرفوضة.
أشارت رئيسة جامعة «بنسلفانيا»، ليز ماجيل، إلى أن الدعوة إلى إبادة اليهود لا تنتهك قواعد سلوك جامعتها، إلا بحسب السياق الذي تأتي فيه


وما بدا مستفزّاً للكثير من "صهاينة أميركا"، هو إشارة رئيسة جامعة "بنسلفانيا"، خلال إفادتها، إلى أن الدعوة إلى إبادة اليهود لا تنتهك قواعد سلوك جامعتها، إلا بحسب السياق الذي تأتي فيه، وهو ما نجمت عنه دعوات إلى إقالتها وإقالة كلّ من كورنبلوث، وجاي. وعقب إفادتها، سارع مجلس "كلية وارتون للأعمال التجارية في بنسلفانيا"، إلى الطلب من ماجيل الاستقالة، معرباً عن قلقه ممّا وصفه بـ"المعتقدات المعلنة للإدارة الحالية، في ما يتعلّق بالقضايا المجتمعية المتعلّقة بمعاداة السامية"، وما وصفه بـ"السلوك القائم على الكراهية" في حرم الجامعة، وفق ما كشفته وسائل إعلام أميركية. كما أكّد المجلس، أنه اتّخذ قرارات لتغيير قواعد السلوك في جامعة "بنسلفانيا"، تمنع أيّاً من الطلاب أو أعضاء هيئة التدريس أو الموظّفين من "الدعوة إلى قتل أو إبادة أيّ زميل أو أيّ مجموعة من الأفراد في المجتمع". وفي الإطار نفسه، أعلن رئيس مجلس أمناء الجامعة، سكوت بوك (والذي استقال بدوره)، في بيان رسمي، أن ماجيل وافقت على البقاء في منصبها حتى يتمّ تعيين رئيس مؤقّت، على أن تبقى عضواً في هيئة التدريس في كلية الحقوق في الجامعة. وفور إذاعة الخبر، اعتبرت ستيفانيك أنّ استقالة ماجيل هي "الحدّ الأدنى لِما هو مطلوب"، داعية جامعتَي "هارفارد" و"ماساتشوستس" إلى اتّخاذ إجراءات مماثلة.
وكجزء من الضغوط التي مورست خلال الأيام الماضية على رئيسة جامعة "هافارد"، أعلن ديفيد وولبي، وهو حاخام يشغل منصب عضو "اللجنة الاستشارية لمعاداة السامية" في الجامعة، تقديم استقالته من اللجنة، معتبراً أنّ المشكلات في الجامعة العريقة "عميقة". وزعم أنّ "معاداة السامية" كانت راسخة إلى درجة أنه لا يعتقد أنه قادر على إحداث هذا النوع من التغيير الذي كان يأمل فيه من خلال عضويته في اللجنة، مضيفاً أنّ "جزءاً من المشكلة هو عقلية القطيع البسيطة، ذلك أنّ الناس يصرخون بشعارات لا يعرفون شيئاً عن معناها أو مضمونها، أو لا يرغبون في أن يكونوا مكروهين من خلال اتّخاذ موقف لا يحظى بشعبية"، في إشارة إلى التأييد الواسع الذي باتت تحظى به القضية الفلسطينية في أوساط الشباب الجامعيين في الولايات المتحدة.
وفي مقابل ما يدفع به مؤيّدو قمع التضامن مع الشعب الفلسطيني، بوصفه "خطاباً معادياً للسامية"، و"مخالفاً للقيم الأميركية"، يبدي ناشطون أميركيون، ولا سيما من أبناء الجالية المسلمة، خشيتهم من تركيز إدارة الجامعات اهتمامها على معالجة مخاوف "معاداة السامية" بصورة أكبر من المخاوف المتعلّقة بانتشار "الإسلاموفوبيا"، التي ارتفعت بنسبة 172% مقارنة بالعام السابق، ويصرّون على أن السلطات الأميركية تتعمّد الخلط بين الاحتجاجات الداعية إلى حرية فلسطين، وما يسمّى "معاداة السامية".