«نحن جيل الغفران 2، وكالذين سبقونا، سنهزم العدو». ما سبق كان غلاف صحيفة «إسرائيل اليوم» بتاريخ 18 تشرين الأول الماضي. أمّا صاحب الوعد فليس إلا المقدّم تومر غرينبيرغ، قائد الكتيبة 13 في لواء «غولاني»، والذي قتلته المقاومة مع تسعة آخرين، إثر كمين أوقعتهم فيه في حي القصبة في الشجاعية شمال غربي غزة، قبل أن يتسنّى لغرينبيرغ تحقيق «الانتصار» الذي تعهّد به، أو العودة إلى المنزل كما وعد طفلته (3 سنوات) في شريط مصوّر بثّه من غزة، بينما كانت طائرات جيشه تطحن المنازل على أجساد الأطفال الفلسطينيين، وتفرّق أشلاءهم بين مناحي الجحيم الذي صنعته إسرائيل هناك.لو أن القتيل غرينبيرغ هو مقدّم في جيش لدولة طبيعيّة لا تحتل أرض شعب آخر، لكانت قصته «ملهمة» لأجيال. في صبيحة هجوم «طوفان الأقصى»، ورده اتصال من نائبه في الكتيبة 13، بينما كان في منزله في مستوطنة «ألموغ» في البحر الميّت، وفيه علم أن مستوطنات «غلاف غزة» تتعرّض لهجوم صاروخي، وهجمات تسلّل بالتزامن. على الفور، انطلق في سيارته إلى موقع الهجوم؛ وفيما كان لا يزال في الطريق، علم أن نائبه قد قُتل، قبل أن يكتشف في وقت لاحق سقوط كلّ المواقع العسكرية الإسرائيلية في المنطقة، ووقوع عناصرها بين قتيل وجريح وأسير، من بينهم 41 قتيلاً من جنود غرينبيرغ نفسه.
في المقابلة التي أجرتها «إسرائيل اليوم» معه بعد عشرة أيام من الهجوم، وبينما كان يلملم قواه ويتدرّب مع كتيبته لاجتياح غزة براً، ادّعى أنه وصل إلى مستوطنة «كفار عزة»، ودخل إلى أحد المنازل ليجد أن قائداً آخر من «غولاني» خدم معه قد قُتل مع زوجته، فيما تُرك ولداه التوأمان حيّين. «لقد ذهبت للقتال في غزة لأجل هذين التوأمين، حتى يعيشا بأمان، وحتى لا يدخل بعد اليوم إرهابيون إلى منزلهم»، قال غرينبيرغ. ورداً على سؤال وجّهه إليه معدّ المقابلة، المحلّل والمراسل العسكري، يوآف ليمور، عن مدى استعداده للقتال بينما خطّطت «حماس» لهذه الحرب منذ 15 عاماً، أجاب: «نحن أيضاً خطّطنا للحرب 15 عاماً. والآن سنرى من خطّط بشكل أفضل. من الواضح لنا جميعاً حول ماذا نقاتل، ولسنا بحاجة إلى أن نعرّف ذلك أكثر أمام الجنود. إرادة الدخول البري كبيرة جداً، وعدد المقاتلين أكبر من أي مرّة. هذا ليس انتقاماً، إنني هنا من أجل التوأمين، ومن أجل ابنتي... كل هذا من أجلهم».
أثبتت الشجاعيّة للمرة «الألف»، أن «الدائرة» التي يريد وزير الأمن، يوآف غالانت، لجنوده أن يغلقوها، ليس بالإمكان إغلاقها


غير أن قصة غرينبيرغ انتهت بـ«كارثة» في الشجاعية، لا تقلّ عن «الكارثة» التي وقعت في مستوطنات «الغلاف»؛ فقد قُتل الضابط مع جنود برتب عالية من لواء النخبة «غولاني»، إضافة إلى آخرين من قوة الهندسة ومن وحدة «الإنقاذ الخاصة التكتيكية» 669. عند الساعة الرابعة والنصف من عصر يوم الثلاثاء، وصل، وفقاً لموقع «واينت»، طاقم حربي، يتألّف من جنود كتيبة المدفعية 53 (أو كتيبة العاصفة التابعة للواء 188)، وجنود من لواء «غولاني»، إضافة إلى القوة الهندسيّة، بهدف «تطهير» مقر مؤلفٍ من ثلاثة مبانٍ وساحة يقع في حي القصبة في منطقة الشجاعية، شمال غربي غزة. للوهلة الأولى، بدا المقر المذكور مهجوراً، إذ ترك مقاومو «حماس» في داخله مجموعة من الوسائل القتالية المختلفة، لكن سرعان ما تبيّن أنه مأهول بالمقاومين. ما إن دخلت القوّة الأولى المؤلفة من أربعة مقاتلين إلى أحد المباني الثلاثة للقيام بعملية المسح، في المبنى الذي وجدت فيه فتحة بئر، حتى تعرّضت لإطلاق نار كثيف فوقع أفرادها قتلى. أمّا القوة الثانية التي كانت في الجهة الأخرى من المباني، فحاولت جاهدة الوصول إلى مكان المقاومين، لينقطع الاتصال في هذه الأثناء مع أحد الضباط من القوة الأولى، ما دفع الثانية إلى التقدير أنه وقع في الأسر واختُطف إلى فتحة البئر. وعندئذ، انضم إلى العملية عدد من قادة الكتائب، وبينهم غرينبيرغ، وقوّة أخرى بهدف التخليص والإنقاذ، ليفاجئهم المقاومون بقذيفة أصابت أحد المباني الثلاثة المليئة بالأسلحة والقنابل، ما أدّى إلى احتراق المبنى حيث كان غرينبيرغ وجنوده، ومن ثم تفجّره.
أثبتت الشجاعيّة للمرة «الألف»، أن «الدائرة» التي يريد وزير الأمن، يوآف غالانت، لجنوده أن يغلقوها، ليس بالإمكان إغلاقها؛ ففي كل مرّة يعود الجنود الإسرائيليون إلى الحي الذي كدّس لرفاق سلاحهم الذين سبقوهم إلى هناك ذكريات مؤلمة، ليكتشفوا أن «الحساب المفتوح» ما فتئ يتوسّع ويتعاظم. وهكذا، فإن الحي الموصوف بأنه «النار» و«الجحيم» و«الكابوس» و«اللعنة»، أضاف إلى سماته، أمس، المعلّق والمراسل العسكري لموقع «واللا»، أمير بوخبوط، وصفاً جديداً هو: «معقل إرهابي وحشي وخطير... سقط فيه عدد كبير من الجنود على مر الحروب الماضية التي أدارتها إسرائيل في قطاع غزة، وفي الحرب الحالية. فتح التاريخ الدامي للحي فصلاً جديداً». وفي الاتجاه نفسه، ذكّر المحلّل والمراسل العسكري لصحيفة «معاريف»، طال ليف- رام، بحساب، لواء «غولاني» تحديداً، المفتوح مع حي الشجاعية، وهو حساب «طويل ودامٍ»، خصوصاً أن سبعة جنود قُتلوا من الكتيبة 13 التابعة للواء في عدوان «الجرف الصامد» عام 2014، فيما أسرت «حماس» جثّة رفيقهم الجندي أورون شاؤول في الكتيبة. وبحسبه، فإن «المعركة على الشجاعية هي إلى حد كبير معركة أيضاً على الرمز والوعي في هذه الحرب».
وهذه الحصيلة الأكبر في ضربة واحدة في الشجاعية، الحيّ الذي يحمل تاريخاً من القتال ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولقادة «غولاني» أنفسهم ذكريات سيئة للغاية فيه خلال حرب عام 2014.ما جعل اليوم الـ68 للحرب، موعدا لصدمة حقيقة تلقاها جمهور العدو ربطا بما حصل في الشجاعية، حيث أدرك في أي الوحول غرق جنود جيشه.

مواجهات في كل مكان
ومن الملاحظ أن أعداد الجنود الإسرائيليين القتلى بدأت بالارتفاع بشكل متزايد يومياً، إذ إن العمليات العسكرية البرية بلغت مراحل لا يمكن معها إكمال المهمّة عبر الدبابات، بعد القصف المكثّف، بل صار لزاماً على الجنود مغادرة آلياتهم واقتحام الشوارع الضيّقة، وتطهير المباني والبيوت، كلّ على حدة. وبذلك، ارتفعت احتمالات وقوع التحامات مباشرة بين الجنود والمقاومين، حيث لا أفضلية كبرى لجيش العدو، كما كانت الحال سابقاً، فلا الدبابات عادت تحمي الجنود، ولا القصف الجوّي والمدفعي يجدي نفعاً مع التحام القوات الغازية مع المقاومين، وهذا ما يفسّر أيضاً العدد المرتفع للقتلى الإسرائيليين بـ«نيران صديقة»، والذين أعلن الجيش الإسرائيلي قبل أيام أن عددهم بلغ 20 جندياً.
وأعلنت «كتائب القسام» و«سرايا القدس»، أمس، تنفيذ عدد من العمليات ضد قوات العدو المتوغّلة في في مختلف محاور القتال جنوباً وشمالاً. وأعلن الفصيلان المقاومان عن عملية «مشتركة» في منطقة وسط غزة، حيث تمكّن مقاتلوهما من «إيقاع قوة صهيونية قوامها 15 جندياً في كمين محكم، والاشتباك معهم من نقطة صفر، والتعامل معهم بالأسلحة المناسبة، وإيقاعهم بين قتيل وجريح»، وبعد ذلك، قصفت مدفعية القسّام وسرايا القدس المنطقة بقذائف الهاون. ونشرت «القسام» مقطع فيديو، أمس، يُظهر مقاتليها وهم يستهدفون دبابات وناقلات جند بقذائف «ياسين 105»، من مسافات قريبة، وكانت لافتةً أيضاً، زراعة وتفجير عبوات ناسفة، تحت الأرض، وتفجيرها بدبابة إسرائيلية في حي الزيتون في شمال القطاع.