المؤسي، ونحن طيّ الأحداث والأخبار والمشاهد الآتية من قطاع غزة والضفة الفلسطينية، يتجلّى في صيغة العيش التي يريد عدونا، غاصب الأرض وقاتل أهلها، أن يجعلها سلوكه الأبدي، وصورته التي يريد تعميمها لتكون الدالة عليه، ولهذا ليس غريباً على نتنياهو، أن يفاخر بأنه قرأ تاريخ الشجاعة، وتاريخ الأوطان، وتاريخ الإرادات، وتاريخ الحضارة في العالم كلّه، فوجد أمثلة تبنّاها لتكون صيغة عيش له ولأبناء جلدته معاً. فرأى أنّ تاريخ الشجاعة وتاريخ الأوطان والإرادات والحضارة يبدو جلياً في عهد تيمورلنك، الأوزبكي الأعرج، وهولاكو عاشق الدم، وجنكيز خان الذبّاح، ونابليون بونابرت المريض بداء الغرور والاستعلاء... وكلّ هؤلاء كانوا مصابين بداء الاستسقاء تجاه الخراب، والدم، وشهوة استعباد الآخرين واستخدامهم، والمفاخرة بالعظمة الكذوب، ومدح القتل، والتدمير، والخروج على الأعراف والتقاليد والأخلاق، والبعد عن كلّ ما هو إنساني، وجعل التوحّش صورةً للكلام والكتب والفنون والسلوك والحوار مع الآخر. وما كان غريباً على غالانت وزير الجيش الإسرائيلي، جيش القتل والخراب، أن يتباهى بكلّ ما جاء في المدوّنات الدينية التي يؤمنون بها، ومدوّنات مؤسسي الكيان الإسرائيلي (بن غوريون، وغولدا، وديان، وبيغن...)، وليس في هذه المدوّنات جميعاً سوى كلمات ومقولات وخطب ووصايا تدعو إلى القتل، قتل كلّ حيّ، وتدمير كلّ عمران، وتخريب القرى والمدن، والدروب، والمناداة بالقوة، والتفاخر، والكذب الفاقع بأنّ السماء أعطتهم الحقّ باستعباد الآخرين واستخدامهم، وكلمة الآخرين توصيفاً تشمل البشرية كلّها من دون استثناء.أمّا من تبقّى منهم كممثلين للواقع والمستقبل اللذيْن يعبّران عنهم -حياة وأحلاماً- أمثال: بن غفير، وسمورتش، فهما يقولان أيضاً كلاماً ثقيلاً رجيماً لا علاقة له بأيّ صفة من صفات البشر، ولا علاقة له بأيّ صفة من صفات العقلانية.
نتنياهو يقول لا بدّ من سحق أهل غزة وتهجيرهم كي يرتاح ضميره، إن كان له ضمير. إنه كائن حجري يريد قطاع غزة جغرافية بلا ناس، يريدها جغرافية ملعونة تماماً مثلما تنطق به مدوّناتهم الدينية، ومروياتهم السردية. ويريد سحق أهل الضفة الفلسطينية وتهجيرهم أيضاً من أجل سادوم وعامورة جديدتين، متناسياً أنّ سيرة أهل غزة وعمرانهم، واستئناسهم للبحر ومحو عربدته هي سيرة كتبها التاريخ نقشاً، وحفظها الحفّاظ كونها درباً من دروب العزة والكرامة وفهم معاني الوطنية والعمران. ولأنّ كلّ ما فيها تاريخٌ يروي ما فعلته أيدي الفلسطينيين البانية في شاطئ قطاع غزة، وما عمّرته في براري غزة وصحاريها، فجعلت للبحر دروباً وإشارات راشدة، مثلما جعلت للبراري والصحارى قرى تدل عليها المواسم والمدارس والكتب.
وآخرون، ليس نتنياهو سوى صورة جلية تعبّر عن أفكارهم وأحلامهم، ينادون بفناء الشعب الفلسطيني وتدمير عمرانه الذي يساوق في العمر عمر أريحا، أول مدينة عرفتها الحضارة والمدنية... من معاصر العنب والزيتون إلى الحجارة التي جعلوها دوّارة راقصة بين أيديهم كي تطحن القمح والذرة، وتبني القلاع والمعابد الخالدة. هؤلاء الجهلة ينادون جهراً برمي قنبلة نووية إسرائيلية على قطاع غزة لعلهم، وهم أحفاد غولدا، أن يحقّقوا حلمها بأن يغرق قطاع غزة في البحر، متناسين أنّ أبوة هذا البحر هي أبوة فلسطينية، وأنّ تاريخه لم يعرف الفناء في القديم، أيام المغول، ولا في الأيام التالية، أيام نابليون بونابرت، ولن يعرفه أبداً لأنّ ثقافة هذا القطاع العزيز هي ثقافة البناء والعمران، ثقافة العمل والبقاء، ثقافة النشيد القارّ في الصدور: بلادي، بلادي!
إنّ الإسرائيليين لم يقرؤوا من صفحات التاريخ سوى الصفحات التي تتحدث عن حياة تشبه حياتهم، وعن أحلام تشبه أحلامهم، وعن أخلاق تشبه أخلاقهم. لقد قرأوا ما كتبه التاريخ عن الطغاة، وهواة الغزو، ومصاصي الدماء، وأهل الوهم طلّاب العظمة الواهمة، وأهل القلوب القاسية، والعقولِ الغلف التي تسمّي المقابر عمراناً، وأنهار الدم شرابَ الترياق، والسجون حياةَ الوداعة؛ حياة صفتها الشناءة، وموسيقاها الشتائم وصلصلة الأغلال، وغناؤها الأنين والزفرات، وحدائقها الأمراض والإماتة.
إنّ هذه القراءات الجاهلية لا يقاربها إلا جاهل مفقوع في عقله، أو أعمى خذلته الحواس، مثلما خذلته صوابيةُ الطرق فتاه، لأنه لا يعرف معنى الصواب، أو صاحب ثقافة دموية سوداء تعلّمها وعاشها في البيت، والمدرسة، والمعبد.
أجل، إنّ مصاصي الدماء، لا يعرفون طعوماً يقبلون عليها سوى طعوم الدم، وهذه حال أبدية متوارثة بالجينات والسلوك، ولا يقتنعون بأيّ لذة محبوبة لديهم سوى الدم، تماماً مثلما هو الذباب الذي لا يحب من الطعوم سوى طعوم القمامة، ومثلما هو الأعمى الذي لا يعرف دربه... إلا بالعصا.
* كاتب وروائي فلسطيني