رام الله | بات واضحاً أن ما تعيشه الضفة الغربية المحتلة، ليس مجرد عملية أو حملة عسكرية، بل حرب غير معلنة تشبه إلى حدّ كبير ما شهدته عام 2002 (السور الواقي)، حين كانت دبابات الاحتلال تحتلها بشكل كامل، وتمارس أبشع الجرائم، وهذا ما تقوله حصيلة الشهداء والأسرى والجرحى اليوم. فمنذ بداية العدوان على غزة في 7 أكتوبر، استشهد في الضفة نحو 300 فلسطيني، ومنذ بداية العام الجاري نحو 505، ما جعل عام 2023 من أكثر الأعوام دموية في السنوات الأخيرة، مع ما رافق ذلك من عمليات هدم واسعة لمنازل المواطنين وتدمير للبنى التحتية، وحملة اعتقالات هي الأوسع من نوعها، طاولت أكثر من 4500 مواطن في خلال شهرين فقط.ولا تكاد ليلة تمر على الضفة من دون عمليات توغل أو اقتحام لمعظم مدنها وبلداتها، تخلّف وراءها ضحايا ودماراً. وبعد عملية عسكرية واسعة في مخيم جنين استمرت ثلاثة أيام، شنّت قوات الاحتلال، مساء السبت، عملية مشابهة في مدينة طولكرم، أسفرت عن استشهاد 5 شبان في مخيم نور شمس، إضافة إلى استشهاد شاب سادس في جنين متأثّراً بجروح أُصيب بها قبل أيام. ودفع جيش العدو بعشرات الآليات والجرافات العسكرية إلى «نور شمس»، وعمد إلى تجريف الشوارع والبنى التحتية في المخيم الذي تحوّل إلى منطقة عسكرية مغلقة. كما اغتال الشابين محمود جابر (22 عاماً)، وهو شقيق قائد «كتيبة طولكرم» في «سرايا القدس» محمد جابر، وغيث شحادة (25 عاماً)، بعد قصفهما بطائرة مُسيّرة في حارة المنشية، حيث تُركا ينزفان مع عدد من الجرحى، إثر عدم سماح قوات الاحتلال لسيارات الإسعاف بالدخول إلى المخيم.
كذلك، شنّت طائرات الاحتلال المُسيّرة، والتي باتت السلاح القاتل الرئيسيّ في الضفة، أكثر من 4 غارات في المخيم خلال العملية، بينما نجح المقاومون في تفجير عشرات العبوات الناسفة بآليات العدو، إذ رُصدت العديد من الآليات المعطوبة أثناء سحبها من قلب «نور شمس»، بينما وثّقت مقاطع مصوّرة صراخ الجنود الإسرائيليين خلال الاشتباكات. وبعد مرور عشر ساعات، انسحب جيش العدو من المخيم، مخلّفاً دماراً كبيراً، علماً أنه كان اقتحم بالتوازي عدة ضواحٍ وبلدات قريبة من طولكرم، من مثل حي ذنابة الجديدة وضاحية اكتابا، حيث شنّ حملة اعتقالات واسعة، وهو ما شهدته أيضاً مدن نابلس وأريحا وقلقيلية والخليل.
وعلى خطّ مواز للتصعيد الأمني الواسع في الضفة من قبل جيش الاحتلال ومستوطنيه، تنشغل الولايات المتحدة بإعادة هندسة السلطة الفلسطينية ومهامها وأدوارها، ومحاولة تذليل العقبات في ما بينها وبين إسرائيل، والتي كان آخرها مسألة أموال المقاصّة. والظاهر أن مستشار «الأمن القومي» الأميركي، جيك سوليفان، نجح، خلال جولته الأحدث في المنطقة، في التوصل إلى تفاهمات بشأن الأزمة الأخيرة، تنصّ على تسليم السلطة، دولة الاحتلال، قائمة بأسماء متلقّي الرواتب في قطاع غزة، على أن «يتم استثناء المحسوبين على حركة حماس من تلقّي الرواتب، كشرط لتحويل حصة غزة من عائدات الضرائب». وأتى ذلك بعد أن كانت رام الله رفضت تسلّم العائدات الضريبية إثر اقتطاع جزء منها من قبل تل أبيب بعد 7 أكتوبر، ما أدخلها في أزمة مالية لم تستطع معها صرف رواتب لموظفيها.
وهكذا، بات واضحاً أن السلطة باتت تحت المشرط الأميركي، الذي يبدو صاحبه عازماً على إجراء تشريح لها تحت حجة «تجديدها»، استعداداً للدور المطلوب منها لعبه في غزة، والذي لا يزال يعارضه في كل الأحوال الجانب الإسرائيلي. ومع ذلك، يتواصل طرح هذا الملف بكثافة في خلال زيارات المسؤولين الأميركيين للضفة، وآخرهم سوليفان الذي التقى عباس، الجمعة الماضي، ليصبح أحدث مسؤول أميركي رفيع يحث «أبو مازن» على «تبنّي تغيير سريع»، كان طلبه منه أيضاً وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال لقائه به في أواخر تشرين الثاني الماضي، عندما ناقشا الحاجة إلى «إصلاحات لمكافحة الفساد وتمكين المجتمع المدني ودعم الصحافة الحرة».
تشبه المقترحات التي قدّمتها واشنطن لسلطة رام الله، تلك التي قدّمتها للتخلص من ياسر عرفات


ومن هنا، تبدو هذه المرحلة، سياسياً أيضاً، شبيهة بأوضاع الضفة الغربية في أعقاب عملية «السور الواقي»، حين انشغلت الإدارة الأميركية بإحداث تغيير في السلطة الفلسطينية، لتنحية الرئيس الراحل، ياسر عرفات، الذي انتهى الأمر به محاصراً في مقر المقاطعة. وتقترب المقترحات التي تقدّمها واشنطن اليوم، على اختلاف السياقات والشخصيات، من تلك التي صدّرتها خلال الانتفاضة الثانية؛ إذ مهّدت وقتها لعزل عرفات من خلال تقوية مكانة عباس في مرحلة تولي الأخير رئاسة الوزراء، ومنحه صلاحيات واسعة، بينما تطلب اليوم تنازل عباس عن بعض سيطرته على السلطة، وتعيين نائب له، وتسليم المزيد من الصلاحيات التنفيذية لرئيس الوزراء، وإدخال شخصيات جديدة في القيادة.
واللافت، هنا، أن عباس أبدى، في مقابلة أجراها أخيراً مع وكالة «رويترز»، انفتاحه على بعض المقترحات الأميركية، بما في ذلك ضخّ «دماء جديدة» بمهارات تكنوقراطية، ومنح مكتب رئيس الوزراء المزيد من الصلاحيات التنفيذية، في حين تبدو حظوظ أمين سر اللجنة التنفيذية لـ«منظمة التحرير»، حسين الشيخ، الأوفر لخلافة عباس. إلا أن صحيفة «صنداي تلغراف» البريطانية نقلت عن مصادر مطّلعة، قولها إن «البيت الأبيض يعتقد أن الرئيس محمود عباس غير قادر على قيادة السلطة، وإن مسؤولي الأمن القومي الأميركي يواجهون حقيقة وهي ضعف إدارة عباس وتراجع شعبيته»، في مقابل «شعبية حماس المتزايدة في الضفة الغربية»، والتي تمثّل إلى جانب «الفساد في السلطة» «تحدياً أمام أي خطة»، أمضى المسؤولون الأميركيون «أسابيع» في صياغتها.