انتهجت تركيا، منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، سياسة مزدوجة حيال إسرائيل؛ فهي من جهة أبقت - ولا تزال - خطوط العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مفتوحة مع الكيان، فيما عملت، بعد مضيّ نحو أسبوعين على الحرب، على الانتقال إلى مواقف تصعيدية في الخطاب الرسمي، بلغت ذروتها بإعلان الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أن رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، "لم يَعُد مخاطباً بالنسبة إليه"، واصفاً إيّاه بأنه "جزّار غزة"، كما كان آرييل شارون "جزّار بيروت"، ومعلناً أنه سيعمل على التشهير بإسرائيل كمجرمة حرب. أمّا المعارضة، فقد انقسمت بين مُدِين بشدّة للهمجية الإسرائيلية، وفي طليعة هؤلاء رئيسا حزبَي "المستقبل"، أحمد داود أوغلو، و"السعادة"، تيميل قره موللا أوغلو، إذ دعوا إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، ووقف التصدير إليها، ومنْع الولايات المتحدة من استخدام قاعدتَي "إينجيرليك" و"كوريجيك". ومن جهتها، دانت زعيمة "الحزب الجيّد"، مرال آقشينير، حركة "حماس"، ووصفتها بـ"الإرهابية"، وإنْ لم تركّز كثيراً على هذه النقطة في خطاباتها اللاحقة. غير أن المفاجأة كانت في خطاب "حزب الشعب الجمهوري"، المعارض الرئيسيّ، والذي تبدّل بعد سقوط زعيمه، كمال كيليتشدار أوغلو، أمام منافسه أوزغور أوزيل، على زعامة الحزب (5 تشرين الثاني)؛ فبعدما كان موقف كيليتشدار أوغلو واضحاً لجهة دعم قضية الشعب الفلسطيني، وإدانة إسرائيل، بدأ أوزيل عهده بسقطة كبيرة، عندما اعتبر حركة "حماس" منظّمة "إرهابية"، وهو ما كرّره في خطاباته اللاحقة عدّة مرّات.في هذا الوقت، ظلّت الأنظار موجّهة إلى المجتمع المدني، حيث توالت الدعوات إلى مقاطعة المنتجات التي تصنعها الشركات الداعمة للعدوان الإسرائيلي، وعلى رأسها سلاسل "ماكدونالدز" و"ستارباكس"، وشركة "نيستله" وغيرها من العلامات التجارية، فيما بدت حركة الشارع من تظاهرات واحتجاجات، "غبّ الطلب"، ولم تكن بالتحشيد المنتظر من شعب يرفع لواء الدفاع عن القضية الفلسطينية. وعلى المستوى الإعلامي، كانت صحيفتا "قرار" المؤيدة لداود أوغلو، و"ملّي غازيتيه" الناطقة بلسان "حزب السعادة"، الأكثر مواكبةً وتنديداً وبصورة يومية، بالوحشية الإسرائيلية. أمّا التغطية في الصحف العلمانية، فكانت خجولة عموماً. أما وسائل إعلام السلطة فذهبت إلى الحدّ الأقصى في إظهار الإجرام الصهيوني وبصورة يومية، ولا سيما صحف "يني شفق" و"صباح" و"تركيا"، والقنوات التلفزيونية المؤيّدة لـ"حزب العدالة والتنمية"، وفي طليعتها "A haber"، وهو ما فسّره محللون بأنه محاولة للتغطية على الإحجام عن اتّخاذ أيّ تدابير عملية ضدّ إسرائيل، فضلاً عن أن الانتخابات البلدية ستحصل في نهاية آذار المقبل، وسيحتاج "العدالة والتنمية" مجدّداً في خلالها إلى دعم الأصوات الإسلامية.
ولكن مع الوقت، بدأت أقلام بعض الإعلام السلطوي تتحرّك وترفع الصوت ولو قليلاً، ولكن في معرض التساؤلات لا المحاسبة. ومن الأمثلة على ما تقدّم، ما ورد في صحيفة "يني شفق" على لسان الكاتب آيدين أونال، في مقالة حملت عنوان "ما الذي فعلته تركيا لغزة، وما الذي لم تفعله وما لم تستطع أن تفعله؟".
التغطية في الصحف العلمانية للحدث الفلسطيني، كانت خجولة عموماً


يعترف الكاتب بدايةً بأن "هناك تصوّراً في تركيا بأن ردّ فعل الأمّة والدولة تجاه الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، باهت. دعونا ننظر إلى ما فعلته تركيا، وما لا تستطيع فعله، وما لم تفعله، واحداً تلو الآخر". ويقول إنه "أولاً وقبل كلّ شيء، قامت الأمّة ولا تزال تقوم بدورها. نعم، إن تظاهراتنا الحاشدة لا تُحدث القدْر نفسه من الضجيج كما هو الحال في أوروبا أو أميركا. إنه أمر طبيعي تماماً. إن التظاهرات من أجل فلسطين في المدن الأوروبية أو الأميركية جديرة بالملاحظة لأنها استثنائية، لكنّ التظاهرات في بلد إسلامي لا تتمتّع بهذه القيمة الإخبارية لأنها عادية. في الأساس، يتمّ تنظيم تظاهرات حاشدة لإجبار الدول أو الحكومات على اتّخاذ الإجراءات اللازمة. وفي تركيا، أصبحت حساسية الدولة والحكومة في ما يتّصل بفلسطين واضحة، وهذا أحد الأسباب وراء بقاء التظاهرات الحاشدة ضعيفة". ويَعتبر أونال أن المقاطعة كانت "ناجحة للغاية" في تركيا، حيث إن "الأغلبية الساحقة من الأمّة تنضمّ إلى المقاطعة ويتمّ تحقيق النتائج. والشعب في تركيا يقوم بدوره في هذا الصدد. إن الحساسية الفلسطينية هي في أعلى مستوياتها في معظم وسائل الإعلام. أجهزة التلفاز والصحف والمجلات لدينا تقوم بدورها بشكل صحيح. يتمّ الاحتفاظ بغزة باستمرار على جدول أعمال وسائل التواصل الاجتماعي. المجتمع المدني يجتاز الاختبار بنجاح. علاوة على ذلك، هناك جزء كبير من الأمّة حسّاس للغاية تجاه فلسطين. تُقام الصلوات في كل وقت. تُعقد المؤتمرات وحلقات النقاش والاجتماعات في كل مكان. يتمّ جمع المساعدات لغزة عبر البازارات والحملات".
ويسرد الكاتب في المقابل ما فعلته تركيا الرسمية لغزة، قائلاً: "لنتحدّث عن الدولة. المسؤولون بالدرجة الأولى، وخاصة الرئيس ووزير الخارجية، يتابعون الموضوع عن كثب منذ اللحظة الأولى. إن تصريح الرئيس إردوغان بأن حماس ليست منظمة إرهابية وحده أعطى الشجاعة لفلسطين وغزة والأمّة. وتستمرّ المبادرات الدبلوماسية بشكل مكثّف. تقوم وزارة الصحة لدينا بنقل المرضى والجرحى إلى تركيا لتلقّي العلاج قدْر الإمكان". ويضيف أن التحرّك التركي "غير المرئي" كان كبيراً، حيث بذل المسؤولون "جهوداً مكثّفة لإنهاء الصراع، ووقف الإبادة الجماعية". وبانتقاله إلى ما لم تفعله الدولة، يقول: "هناك أيضاً أشياء متوقّعة من الدولة، ولكن لا يمكنها القيام بها. على سبيل المثال، القوات المسلّحة التركية مطلوبة للتدخّل في إسرائيل. أعتقد أنّنا جميعاً نعلم أن هذا غير ممكن، ولا يمكن أن يحدث. وبينما تقدّم أوروبا والولايات المتحدة الدعم الكامل لإسرائيل، وبينما أدارت الدول الإسلامية، وخاصة جيرانها، ظهرها لهذه القضية، فمن غير الممكن لتركيا أن تتدخّل وحدها في جغرافيا يمكن اعتبارها بعيدة، أو أن تغلق موانئها وتوقف التجارة... واضح أن ذلك ستكون له تكاليف باهظة. والحقيقة هي أنه حتى لو وافق جزء من البلاد على دفع هذه الفاتورة، فإن الأغلبية لن تكون راضية".
ويستدرك أونال بأنه "يمكن خفض الصادرات العامة إلى إسرائيل. كما كان من الممكن قطع العلاقات الدبلوماسية معها بشكل كامل، وإجراء المزيد من المناقشات المكثّفة مع الدول الإسلامية، وإعداد إجراءات مشتركة. وبينما تستمرّ الإبادة الجماعية في غزة". ويخلص إلى أن "علينا أن نعطي تركيا حقّها. ولا نلتفت إلى عمليات فبركة الصورة التي يقوم بها عملاء الداخل للدول التي تحاول الاستفادة من القضية الفلسطينية، كما يفعل المعارضون الذين يستخدمون القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية، أو الصهاينة السرّيون والعلنيون الذين تسلّلوا إلينا". وينهي آيدين أونال مقالته بالقول: "نحن في حال جيّدة. دعونا نمضِ بإصرار في طريقنا لبذل مزيد من الجهد وإنجازه، من دون تهاون أو تراخٍ ومن دون إسقاط فلسطين من جدول أعمالنا. نحن لسنا كسالى أو عديمي الإحساس".