غزة | يبدو المجيء إلى الحياة في قطاع غزّة في هذا الظرف العصيب، مشكلةً كبرى. إذ تسبّب خروج المركزَين الطبيَّين الوحيدَين اللذين يقدّمان خدمات التوليد، عن الخدمة، في كارثة تتعرّض لها الأمّهات الحوامل، وتنتهي عادةً بموت المولود في أحسن الأحوال. في مركز إيواء مدرسة يافا غربيّ حيّ التفاح، لم يجد الشاب العشريني، محمد المصري، سوى النقطة الطبيّة العديمة الإمكانات والكوادر المؤهّلة، لتوليد زوجته بعدما داهمها المخاض في ساعات متأخّرة من مساء يوم السبت الماضي. أصيب طاقم الإسعاف والطوارئ هناك بالوجوم، إذ ليس بين أفراده من هو متخصّص أو مؤهّل لإجراء مثل هذه العملية. غطّى الصمت أكثر من عشرة آلاف نازح، وسُمع فقط صوت الطلق والصراخ الذي لم يزاحمه سوى دويّ الغارات والقذائف القريبة. ورغم أنّ الجانب الشمالي من الخيمة الطبيّة ازدحم بجثامين أكثر من 15 شهيداً، إلّا أنّ خروج الطفل الوليد إلى الحياة، صار أكثر ما يشغل حشد النازحين الكبير.مضت ساعة خبا فيها صراخ الأم، وسُمع صراخ الوليد، قبل أن يخرج من الخيمة الطبيّة ممرّض يحمل الوافد الجديد إلى الحياة، وقد تجمّعت في وجهه كل ملامح الانكسار التي قد تحملها وجوه البؤساء في هذا العالم: «لقد ماتت الأمّ... هذا كلّ ما استطعت أن أفعله». مضى يومان لم تكن فيهما صحّة المولود الجديد في أحسن حال. حاولت النسوة النازحات التطوّع لإرضاعه، ولكن من دون جدوى. تواصل ممرّضو النقطة الطبيّة مع كلّ الجهات الدولية والمحلّية لنقله إلى حيث توجد حضانات أو أيّ جهة يمكنها رعايته، ولكن من دون فائدة أيضاً. ثمّ يوم الإثنين، تزاحم الآلاف من روّاد مركز الإيواء للصلاة على المولود الجديد، الذي غادر هو الآخر الحياة سريعاً.
تخلو مناطق شمال وادي غزّة تماماً من أيّ مركز طبّي يقدّم خدمات الولادة للنساء الحوامل، حيث لا يزال «مستشفى العودة»، رغم انفكاك الحصار الإسرائيلي عنه والذي استمرّ 15 يوماً، معزولاً. كذلك، خرج «مجمع الصحابة الطبّي» عن العمل منذ سبعة أيام، بعدما توغّلت الدبابات في شارعَي النفق والصحابة ومنطقة اليرموك. وأمام ذلك، صار البحث عن القابلات أو حتى العجائز اللواتي يمتلكن قليلاً من الخبرة المتوارثة هو الحلّ الوحيد لإجراء عمليات الولادة، فيما تحول الإمكانات الطبيّة المحدودة دون نجاح أكثر تلك العمليات. وبحسب مصدر طبّي محاصَر في «مستشفى العودة»، فقد أطلقت إدارة المستشفى نداء استغاثة للسماح بخروج طاقم طبّي منها لإجراء عمليات التوليد في البيوت أو مراكز الإيواء، ولكنّ جيش الاحتلال لا يزال يُخضع الطاقم الطبّي لتحقيق واستجواب، ويرفض خروج أفراده من المستشفى إلى المناطق الآمنة. والجدير ذكره، هنا، أنّ آخر أرقام وزارة الصحة تفيد بأنّ 50 ألف سيدة حامل في مراكز الإيواء بلا ماء ولا طعام ولا رعاية صحيّة، ونحو 180 سيدة يضعن مواليدهنّ يومياً في ظروف غير آمنة وغير إنسانية.