في أعقاب فشل قوات الاحتلال في تحقيق أيّ من أهدافها العسكرية المعلنة في قطاع غزة، واستمرار المقاومة في إلحاق أضرار بشرية ومادية كبيرة بصفوفها، باتت حكومة العدو تتحدث، بشكل أكثر علانية وكثافة، وعلى لسان أكثر الأعضاء تطرّفاً في صفوفها، على غرار وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، عن ضرورة التركيز على تحقيق هدف ذي طابع آخر، يشغل، على الأرجح، أذهان صناع السياسة الإسرائيليين منذ بداية العدوان الهمجي والعشوائي على قطاع غزة؛ أي ذلك المتمثّل بـ«تهجير سكان القطاع»، «وتوزيعهم» على الدول العربية والغربية. وفي السياق، تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية، أخيراً، عن أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، وافق على تأدية دور «الوسيط»، في مرحلة ما بعد الحرب، على أن تشمل مهمة بلير الجديدة، بحسب ما ذكرته «القناة 12» العبرية، مساء الأحد، «دراسة» مدى قابلية الدول الغربية لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين، وإقناعها بضرورة القيام بذلك. وفي إطار مهمّته الجديدة كـ«مبعوث للتهجير»، تتابع القناة العبرية أن بلير زار فلسطين المحتلة، الأسبوع الماضي، وعقد اجتماعات لم يتمّ الكشف عنها مع رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ووزير «مجلس الحرب»، بيني غانتس. وخلال هذه اللقاءات، تمّ طرح فكرة «توسّط» رئيس الوزراء البريطاني الأسبق في هذا الملف، جنباً إلى جنب مع عمله كـ«منسق» موكل بنقل «احتياجات إسرائيل الأمنية إلى العالم الغربي». وعليه، تتالت ردود الفعل الفلسطينية الرسمية المندّدة بتلك النوايا الإسرائيلية، ومن بينها دعوة رئيس بعثة فلسطين في المملكة المتحدة، السفير حسام زملط، في منشور على منصة «أكس»، الإثنين، الحكومة البريطانية إلى «ضمان عدم مشاركة أيّ شخصية بريطانية بأيّ شكل من الأشكال في جرائم إسرائيل المستمرة ضدّ الإنسانية في فلسطين»، وذلك في أعقاب المعلومات التي أفادت بتقديم بلير المساعدة لإسرائيل على «تنفيذ الطرد الجماعي للفلسطينيين من وطنهم، والتطهير العرقي بحقهم، تحت ستار (الهجرة الطوعية)»، على حدّ تعبير زملط، الذي تعهّد بتحميل «المتواطئين» «العواقب القانونية لهذه الأعمال الإجرامية وغير الأخلاقية ضد الشعب الفلسطيني». بدورها، «رفضت» الرئاسة الفلسطينية، أوّل من أمس، ما وصفتها بـ«المحاولات المشبوهة» لتكليف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، أو غيره، بالعمل من أجل تهجير المواطنين من قطاع غزة. كما اعتبرت السلطة أن «توني بلير يقوم باستكمال (إعلان بلفور)»، الذي أسّس لمأساة الشعب الفلسطيني، وإشعال عشرات الحروب في المنطقة. وبطبيعة الحال، سرعان ما نفت مصادر مقربة من بلير المعلومات الإسرائيلية، معتبرةً أنّها «محض ادعاءات»، فيما أعلن «معهد توني بلير للتغير العالمي»، أنّ «تقرير (القناة 12) الإسرائيلية، الذي يتحدث عن (دور) لتوني بلير، في إعادة التوطين الطوعي لسكان غزة في البلدان العربية وغيرها هو مجرد كذبة». وتابع المعهد، في منشور عبر «أكس»، أن وسيلة الإعلام الإسرائيلية المعنيّة نشرت هذه الرواية «من دون إجراء أيّ اتصال مع بلير أو فريقه»، مشيراً إلى أن مثل تلك المناقشات «لم ولن تحصل»، باعتبار أن «الفكرة خطأ من حيث المبدأ»، إذ يجب أن يكون «سكان غزة قادرين على البقاء والعيش فيها».
تتالت ردود الفعل الفلسطينية الرسمية المندّدة بالنوايا الإسرائيلية


على أن الإنكار البريطاني لا يلغي واقع أن «النية» الإسرائيلية في تهجير أهالي غزة أصبحت واضحة أكثر من أي وقت مضى، بعدما بات متطرفو حكومة الاحتلال يعبّرون عنها بـ«وقاحة» غير معهودة؛ فقد رأى بن غفير، هذا الأسبوع مثلاً، في الحرب الهجمية على غزة «فرصة للتركيز على تهجير سكان القطاع إلى الخارج»، بهدف «تسهيل عودة» المستوطنين الإسرائيليين إلى «الغلاف»، وإلى المستوطنات التي تمّ إخلاؤها عام 2005 في القطاع نفسه. وفي وقت سابق، رحّب «وزير المال» الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، في منشور عبر «فيسبوك»، بـ«الهجرة الطوعية لعرب غزة إلى دول العالم». كما أنه من غير المستبعد أن تفوّض إسرائيل، توني بلير تحديداً، صاحب «الاعتذار» الشهير عن إعلان غزو العراق، بعد أكثر من عقد من حصوله، وعن «المعلومات الاستخباراتية الخطأ»، «والتخطيط السيّئ» للعملية برمتها، بمهمة على غرار تهجير سكان غزة.
بصورة أعم، وبعد القصف الوحشي والمحاولات المستميتة لجعل القطاع «غير قابل للحياة»، لا تزال إسرائيل تسعى إلى أن يتحول تهجير أهله، بحكم الأمر الواقع، من جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، إلى ما هو أشبه «بضرورة إنسانية»، «وحلّ ملحّ» لهؤلاء السكان، فيما يبقى الثابت أن هذه المساعي تعكس، عملياً، «العجز» الفاضح عن تحقيق أيّ خروقات عسكرية تذكر في صفوف المقاومة، ما يجعلها تركز على ورقة «التهويل المعنوي»، ومحاولة بثّ الرعب والإحباط في أوساط الشعب الفلسطيني.