غزة | بعد أسبوعين من بدء الانسحابات الإسرائيلية من مساحات واسعة في شمال غزة، وتركُّز زخم العملية البرية على الأحياء الشرقية من مدينة غزة (الدرج والتفاح)، ومخيّمات وسط القطاع (المغازي، البريج والنصيرات)، إلى جانب العملية الكبرى التي تشهدها مدينة خانيونس جنوب القطاع، لا تبدو المقاومة في مناطق محافظة الشمال في وارد السماح بإعادة تموضع هادئة لقوات العدو؛ إذ واصلت، خلال الأسبوعَين الماضيَين، تنفيذ عمليات مؤثّرة لاحقت الدبابات الإسرائيلية في مكامنها الجديدة. وليل الثلاثاء - الأربعاء مثلاً، خاضت المقاومة نحو خمسة اشتباكات في نقاط التماس، اضطرّ جيش العدو على إثرها إلى إعادة التقدّم في أحياء التوام وجباليا البلد، بهدف إقامة جدار صدّي بالنار، يمنع المقاومين من الوصول إلى منامات جنوده ومخيماتهم على الأطراف الشرقية والغربية لشمال القطاع. وخلال الأيام الخمسة الماضية، أعلن العدو، بشكل يومي، مقتل وإصابة العشرات من جنوده.وفي التفاح والدرج، يبدو واضحاً المدى الذي تشرّب فيه المقاومون سلوك العدو، حيث لا تُظهر المقاطع المصوّرة التي تبثّها كلٌّ من «كتائب القسام» و»سرايا القدس»، مستوى تمكُّن المقاومين وجرأتهم في مواجهة الجنود والدبابات المتوغّلة فحسب، إنّما استهزاءً بالعدو، المسلح بآليات ثقيلة الحركة، يَظهر في مقابلها وعلى بعد عشرة أمتار فقط، مقاوم بسلاحه المضاد للدروع، ليس مستعجلاً من أمره، بل يَنتظر إيعاز الآمر بإطلاق مقذوفات «الياسين» والـ»آر بي جي» و»التاندوم»، في الوقت والمكان الأمثل، فيما الجنود في الدبابات يَنتظرون مصيرهم، قبل البدء بمحاولات انسحاب متأخّرة. ويبدو العنوان الأبرز في المرحلة الحالية من عمر الحرب، هو الصورة، حيث لا تترك المقاومة العدو يومياً، من دون أن تقدّم وجبة دسمة من الأداء الميداني المذهل، بدقة فائقة الوضوح، تجلّيها ما يبدو أنها مقاطع صُوّرت بكاميرات احترافية، حتى الصحافيون العاملون في الميدان، لا تسمح لهم الظروف اللوجستية بحملها واستخدامها.
لا تزال المقاومة تمتلك زمام الموقف الميداني، إذ لم تتداعَ أيّ جبهة، ولم يسقط أيّ محور قتال


أمّا في جنوب القطاع، حيث ذروة القتال، والميدان الأكثر زخماً، فقد زجّ جيش العدو بنحو 300 دبابة، والعديد الأكبر من القوات الخاصة. ومع مضيّ أكثر من 30 يوماً على بدء الهجوم هناك، حيث توغّلت دبابات الاحتلال في عمق المناطق الشرقية والغربية من المدينة، من دون أن تستميت المقاومة لعرقلة مسيرها، يطلّ المقاومون بين الأزقّة والأبنية، ومن شرفات المنازل، يوميّاً، لمباغتة جنود العدو من مسافة صفرية، ليقوموا بمهامهم بأعصاب باردة للغاية، ثم يختفون. وخلال مدّة العملية البرية في تلك المنطقة، لم يستطع العدو التصرّف بثقة الآمن، إذ لم يسيّر دوريات راجلة تمشّط المنازل، الواحد تلو الآخر، كما هو منوط بأيّ عمليات قضم ميداني، ولم تُستقدم إلى داخل المدينة الجيبات الأقل تصفيحاً. وحتى موقع أبو عريبان الطرفي، الذي أحاطه العدو بسواتر ترابية عالية جداً، أقام في وسطها منامات جنوده، وأحاطه بأسطول من كاميرات المراقبة والتجسّس، نفّذت فيه «سرايا القدس» عملية هجوم صاروخي ومدفعي نوعية، حيث أطلق المقاومون العشرات من صواريخ «107» النظامية من فوهات حفروها في بناية سكنية مقابلة للموقع. ومن جهة أخرى، أمطروه بصواريخ قوسية من ذات الطراز، ومن جهات ثالثة ورابعة وخامسة، دكّ سلاح المدفعية «الهاون» الموقع الذي رُصد جيداً، بالعشرات من قذائف الهاون النظامية العالية الدقة.
في خلاصة الأمر، يمكن التقدير أن المقاومة دمّرت، منذ بدء العملية البرية، أكثر من 1000 دبابة، ولا تزال تمتلك زمام الموقف الميداني، إذ لم تتداعَ أيّ جبهة، ولم يسقط أيّ محور قتال. وسط ذلك كله، تشبه عملية التطهير التي يقوم بها العدو لمناطق شديدة العناد والعنف، مثل بيت حانون وجباليا والشيخ رضوان والشجاعية، ما يقوم به أيّ طبيب لم يبرّ بقسَم المهنة، في تطبيب الجروح ظاهرياً ومن دون عناية. هكذا، خرج العدو من كلّ المناطق التي اجتاحها، مثقَلاً بخيبة استمرار الفعل الميداني، ودماء الأبرياء.