تراجَعَ، نسبياً، الموقفُ أو الموقع المحايد، بشأن الصراع الذي عنوانه، منذ ثلاثة أشهر، غزة. السبب الرئيس، المجازر الصهيونية البربرية ضد أهلها وكل أشكال الحياة فيها، وكذلك بسبب صمود هؤلاء المدهش، بالتلازم مع بطولات مقاوميها الذين سطّروا مآثر وملاحم قلّ نظيرها! ينطلق قسم غير قليل من المواطنين، في التعبير عن رغباته بشأن ما يحدث من صراعات وأزمات داخل لبنان، أو في محيطه، من موقع «طلب السترة». الهاجس الرئيس في ذلك خوف وقلق من أن تؤدي المواقف، بشأن الأزمات، إلى ما يزيد معاناة المواطنين في تدبُّر شؤون ومستلزمات حياتهم وحياة عائلاتهم على المستوى الاقتصادي والخدماتي والتربوي والصحي. هم كابدوا نتائج وتبعات الانهيار لمدة تزيد عن أربع سنوات. وهي نتائج كارثية، بعد أن أقدمت قوى السلطة الأساسية، ومصارفها، وبنكها المركزي، على نهب مدخراتهم وودائعهم ورواتبهم من دون رحمة أو حدود. أن يطلب أحد «الحياد»، بمعنى عدم تعريض حياته لمزيد من المصاعب والآلام، أمر طبيعي وبشريّ. ذلك، بالضرورة، سيدخل، بهذا القدر أو ذاك، في حسابات الجهات التي تأخذ بناصية القرار، أو تشارك فيه. بيد أن ثمة من يطالب بـ«الحياد» ليس للابتعاد عن أتون الأزمات وكوارثها، بل كشكل من أشكال الانخراط فيها بما يخدم، مباشرة أو مداورة، مصلحة أحد الأطراف فيها! إننا هنا، نناقش هذا الموقف، أو نناقش أصحابه. هؤلاء، وفي طليعتهم، صاحب الصوت الأعلى، البطريرك بشارة الراعي، يلحون، عموماً، على «الحياد» في حالات التأزم الإقليمي المرتبط بالصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، وبالصراع اللبناني مع العدو الصهيوني، بشكل خاص.
من جهته، اشتق الراعي نظرية متكاملة لهذا الغرض. هي تقوم على ربط وجود ودور لبنان نفسه بـ«الحياد». لبنان، وفقاً للبطريرك الماروني، يكف عن أن يكون هو نفسه إن لم يكن «محايداً». ومن قبيل الاستدراك الجزئي، ونظراً إلى تاريخ العدو الصهيوني في استهداف لبنان، واستمرار تنكّره لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني، فقد وصف الراعي هذا الحياد بـ«الناشط». أي إن باستطاعة لبنان أن يتخذ مواقف منتقدة للعدوانية الإسرائيلية (وكأنه جزر القمر!) إذا ما تمادى الصهاينة، ولم يحترموا قرارات الشرعية الدولية وخصوصاً القرار 1701 الذي من شأن تطبيقه أن يحمي لبنان بضمانة «المجتمع الدولي»، كما يؤكد الراعي!
ثم إن دعاة الحياد، هل هم محايدون فعلاً؟ هل هم على مسافة واحدة من المحاور والتكتلات؟


إنّ القول بأن لبنان كان دائماً محايداً، لا يتفق أصلاً، مع وقائع بارزة على غرار ما حدث عام 1958. حينها انضم الرئيس كميل شمعون إلى «حلف بغداد»، ما أثار نزاعاً داخلياً كبيراً أدى إلى نشوب انقسام سياسي واحتراب أهلي تخلّله استدعاء «الأسطول السادس» الأميركي لدعم حكم الرئيس شمعون وسياسته. وفي عام 1977 استُدعيت القوات السورية للدخول عسكرياً إلى لبنان من فريق «الجبهة اللبنانية» الذي هو امتداد للفريق الشمعوني عام 1958. كان ذلك أحد الأسباب الأساسية، لاحقاً، لإقامة وصاية على لبنان اضطلعت القوات السوريّة بدور تنفيذي مركزي فيها، بدعم كبير، أميركي وخليجي، ما قاد إلى وصاية استمرت 15 سنة فقط! يجدر القول هنا إن الفريق الذي لم يلتزم حياد التأسيس القائم على «النفيين» (حيال سوريا وفرنسا)، كان هو الفريق نفسه الذي يستحضر فكرة «الحياد» عندما تحتدم الصراعات الإقليمية كنتيجة للمشروع الصهيوني في فلسطين وتشريد شعبها. لقد أكره الصهاينة، بالمجازر والإرهاب، نحو نصف مليون فلسطيني على اللجوء إلى لبنان. عدم حل مشكلتهم، أسّس للأزمة الكبيرة التي قادت إلى الحرب الأهلية بين عامَي 1975 و1980، والتي استغلها الصهاينة لاحتلال أكثر من نصف لبنان عام 1982، بما في ذلك العاصمة، ثم فرض اتفاقية إذعان عليه حملت اسم «17 أيار».
المشروع الصهيوني، هو الذي شحن «الصيغة اللبنانية»، غالباً، بعناصر التوتر والتفجير. كان ذلك في الماضي. وهو مستمر اليوم، عبر استمرار احتلال أراض لبنانية وانتهاك سيادة لبنان، جواً وبراً وبحراً، وعبر السطو على جزء من حقوقه البحرية واستهدافه بالعمليات الأمنية وآخرها اغتيال صالح العاروري وإخوانه يوم الثلاثاء الماضي في الضاحية الجنوبية!
إنّ مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، على لبنان، لن تكون بقمع اللاجئ الفلسطيني، أو بغض النظر عن انتهاك سيادة لبنان واستمرار احتلال جزء من أرضه، أو بالرهان على «المجتمع الدولي» وقراراته. ولن تكون حكماً، عبر الزيارات «الرعوية»! التحرير، هو، بالتجربة المرّة، أو الفذّة (عبر المقاومة)، لم يكن ولن يكون إلا بسواعد المقاومين وتضحياتهم وبطولاتهم. إنّ الدول الغربية، وخصوصاً واشنطن التي تتحكّم بـ«الشرعية الدولية»، لا تتدخل إلا لمصلحة إسرائيل فقط. العالم شاهد اليوم، بالأساطيل والمجازر والدعم المطلق، على انحياز واشنطن وفريقها إلى جانب القيادة الصهيونية المجرمة وهي تواصل حرب إبادة همجية في قطاع غزة بشكل فاق كل أشكال البربرية التي عانت منها البشرية قديماً وحديثاً. إنّ استمرار المشروع الصهيوني سيحمل دائماً تحدّيات ومخاطر جديدة على دور لبنان وحتى على وجوده ووحدته. والتطبيع مع العدو الممعن في تشريده للشعب الفلسطيني، وفي منعه من تقرير مصيره، هو تهديد حقيقي لوحدة لبنان ولسيادته.
لا ينبغي أن يكون لبنان تابعاً لأحد في الإقليم أو على المستوى الدولي. لكن لا حياد بين المعتدي والمعتدى عليه، وخصوصاً إذا كان الشعب اللبناني نفسه أو أحد الأشقاء العرب وتحديداً الشعب الفلسطيني، هو المستهدف. ثم إنّ دعاة الحياد، هل هم محايدون فعلاً؟ هل هم على مسافة واحدة من المحاور والتكتلات، ومن أطرافها الإقليمية والدولية. هل هم، على سبيل المثال، على مسافة واحدة من الرياض وطهران، ومن واشنطن وموسكو أو بكين؟ هل طالبوا بـ«الحياد» حين انخرطت أطراف لبنانية، رسمية وغير رسمية، في الحرب السوريّة ضد النظام السوري، أم فقط حين تدخّل حزب الله داعماً ومشاركاً في قتال المجموعات الإرهابية التي كانت تستهدف لبنان أيضاً وليس سوريا فقط؟!
لن يستقيم الوضع في لبنان، بما يحفظ مصالح وسيادة ووحدة شعبه وأرضه، إلا عبر انخراط «ناشط» في أمرين: الأول، في مشروع تحرّري عربي يكون ترجمة وحاضنة لانتماء لبنان العربي، ولمواجهة العدوانية التوسّعية الصهيونية ذات الخرائط والأطماع المعلنة في ضم جزء كبير من الجغرافيا اللبنانية، وفي استهداف مصالحه المصيرية. الثاني، في مشروع وطني لبناء الدولة الحصينة والموحدة والقادرة على الدفاع عن أمنها وسيادتها من جهة، وعن مصالح اللبنانيين في التقدم والازدهار والحرية، من جهة ثانية. ولن يحصل ذلك بغير التحرر، من التبعية العمياء للغرب الاستعماري، ومن منظومة التحاصص الفئوية التي أغرقت الأكثرية الساحقة من الشعب في أتون أزمة طاحنة جرّاء النهب والفساد وغياب المحاسبة.

* كاتب وسياسي لبناني