غزة | حتى يوم الأربعاء، بقي شارع غزة القديم، الذي يربط محافظة شمال غزة، بأحياء الدرج والتفاح والسدرة، مسرحَ جرائم مغطّى بستار العزلة التامة عن العالم؛ إذ لم تدخل إليه، خلال الأيام العشرة الماضية، أيّ سيارة إسعاف أو دفاع مدني. حين دخلنا الحي، استقبلنا الأهالي بشعور المجروح، الذي تشتدّ حاجته إلى أن يلقي حزناً عن كاهله، أمام أيّ كاميرا أو حتى عابر سبيل. هنا، ارتكبت قوات العدو جرائم بشعة بحق المئات من الأبرياء. يقول أحمد المطوق، في حديثه إلى «الأخبار»: «بدأ القصف المدفعي، خرجنا من المنزل، ففوجئنا بأن القذائف تضرب الطوابق العلوية من منازلنا، والدبابات في مقابل باب البيت. طلب منا الجنود أن نخرج من المنازل، وبدأوا بتحقيق قاسٍ تعرّضنا فيه للضرب والإهانة». يشير الشاب الثلاثيني إلى أرض خالية، ويكمل: «هنا وضعوا مربض المدفعية، وأسفل المدفع أجلسونا جميعاً وبدأوا القصف العنيف. كانت كل قذيفة تلفح وجوهنا باللهب، وتصمّ آذاننا من شدة الانفجار. وبعد ليلة كاملة، اعتقلوا منا العشرات، وأمروا البقية بالتوجّه شمالاً إلى مخيم جباليا. وخلال مرورنا، أطلقوا الرصاص على أقدامنا فأصيب خمسة شبان. وصلنا المعسكر زحفاً من شدة الخوف».أما أحمد الناعوق، وهو واحد من سكان الحي عايش تلك الليلة، فيتحدث عن خمسة شهداء داستهم دبابات العدو بينما كانوا لا يزالون مصابين وأحياء. يقول الشاب: «طلبوا من أحد الجيران تفتيش كل المنازل، وإخراج كل من لم ينصع لأوامر الجيش. وعندما عاد من مهمته، أطلقوا عليه الرصاص وأصابوه إصابة بليغة. وعلى طريق تقدم الدبابات، كانوا قد طلبوا من خمسة من الجرحى الانسحاب جنوباً إلى مدينة غزة، وفي الطريق داستهم دبابة. اليوم جمعنا ما ظهر من أجسادهم وواريناهم الثرى».
يتحدث الأطفال الواقفون فوق بقايا جنزير دبابة عن بطولات وملاحم خاضها المقاومون خلال أيام التوغل


على بعد عدة أمتار من حيث يجلس الناعوق، التقينا عبد الله الصيفي، وهو شاب في آخر العشرينيات، غارقٌ في بحر من رماد الأقمشة والسجاد المحروق. في المستودع الذي يحوي عرق سنواته واستثمار العمر، كان يضربُ كفاً بكف. يقول الشاب في حديثه إلى «الأخبار»: «حرقوا قلوبنا. الله يحرقهم. هذا مشروع عائلي أمضينا العمر في إنشائه. مئات الآلاف من الدولارات هي ثمن البضاعة المحروقة. ليس فيه غرام حديد في الداخل، كله قماش وسجاد وخيطان». ويضيف الشاب، بينما يشير إلى بناية استحالت ركاماً: «هذا البيت كان يسكن فيه 20 عائلة، بنيناه من حبات عينينا والله. رجعنا اليوم بعد انسحاب العدو، ما لقينا لا دار ولا مستودع».
على الأطراف الجنوبية، حيث تتبدّى أطلال حي التفاح، يتحدث الأطفال الواقفون فوق بقايا جنزير دبابة عن بطولات وملاحم خاضها المقاومون خلال أيام التوغل، وعن شهداء معروفين بالأسماء، أطلقوا الرصاص على رؤوس الجنود من مسافة صفر. وفيما يغيب الكثير من تلك التفاصيل، سيتكفّل الزمن، بلا شك، بكشف خبايا أيام الاجتياح العشرة.