إلى وائل الدحدوح
أنا تعبٌ، ولست أقوى على أكثر من الكلام. أنا جندي تعب من الانتظار وحيداً. وأجد نفسي محشوراً وسط الركام. أسمع صراخ الناجين إلى حين، وليس في يدي حجر، ولا سهم ولا حتى بقية طين!
لكنّني واحد، فقير الحال، في زمن نقص فيه الرجال. جسدي مُنهك مثل سجين حُرم من النوم، لا يتحرك فيَّ إلا بعض كلمات، أقولها، حتى ولو كان القول قاهراً لقائله، أو مزعجاً لسامعه، أو متعباً لناقله ولو على شكل صدى...
أنظر الى أشلاء فتى يلملم نفسه ويرمي الوحش بناره، وأرفع بنفسي من فوق آخر جدار لأقول له، إنني معه، لكنّني لا أجد نفسي قريباً كفاية من صراخه، رغم أن صوته أعلى من كل الأصوات...
كيف يفترض أن يكون حالنا مع أهل غزة؟ هل نركن إلى عجزنا خلف الشاشات، أم نداري أنفسنا خلف قائل بأن الله لا يُكلف نفساً إلا وُسعها؟ وها نحن نجد بين أهل غزة، أنفساً وجدت أن في وسعها أكثر مما نستحقّ!
كيف لنا، بعد كل ما يحصل، أن نفقد قدرتنا على الفعل الذي يتجاوز العقل في دعم بقية الله في هذه الأرض، ونتجاوز العقل، إلى حيث يقودنا الأحساس بالحق، نحو تلك النجمة الصامدة في هذه السماء الرمادية؟
كيف لنا، أن نقبل بأن يتحول عقلنا إلى قيدنا، فنمسك بأطفالنا، كأنّ الذين يموتون، لا أهل لهم، ولا أحبة ولا رفاق؟
لا فرصة أمامنا، سوى النظر من حولنا، لنعرف جيداً، أن ما نتركه للغد، ليس سوى سراب بسراب، وأن طريق الحق، لا تزال فيه مسافات تحتاج منا إلى المسير... وسوف نجد أيضاً، أنه ليس هناك ما نتركه للغد!
لم يعد هناك فرق بين نهار وليل، بين سراب أو ضباب أو بقايا حياة. لقد حجبت الغربان زرقة السماء من فوقنا، وتُركنا في هواء طلق لا نهاية له. فلا جدران تفصلنا عن بعضنا، ولا كساء يقينا البرد. والعتمة لا تخفي وميض النار عن أعين الأولاد.
ها هم العابرون، أنفسهم، يجرّبون حظهم معنا مرة جديدة. وخوفهم يكبر من ضيق الأزقة. ترهبهم المآذن المرتفعة، ولا يروق لهم أن في حيّنا حديقة، أو مدرسة أو مخبزاً أو نافورة مياه، وعلى حافة البحر، كسرُوا المراكب والرصيف، لكن ماذا يفعلون بالبحر، وهل هزم أحد البحر أصلاً؟
يدورون حول أنفسهم، ينظرون في عيون بعضهم، باحثين عن خلاص من مرضنا الأبدي. وعيونهم مسمّرة إلى تحت. لا يعلمون، أن الشهيد، الذي تلتقطه الأيدي تحت الأرض، تُهمَس في أذنه آيات قصار قبل أن يطير من جديد ليتابع رحلته الأخيرة إلى السماء.
لا شيء يميّز البرابرة الجدد عن الآخرين من سلالات القهر. حفظوا جيداً وصايا الآباء والأمهات. وصدّقوا خرافات الأجداد بأن هذه الأرض لهم. وهم منذ وصلوا، يفرشون الدار على مقاساتهم، لكنّهم يشعرون دوماً، بأن الهواء ليس لهم، ولا المياه، ولا حتى التراب.
لا شيء نتركه للغد!
أشلاؤنا تجمع بعضها من كل الأمكنة، وتتشكّل على هيئة أطفال أصحاء. ودماؤنا، تسيل في جداول وتسير باتجاه وسط المكان، تعيد رسم وجه صلاح الدين على الشارع الطويل. وأطرافنا التي تناثرت في الحارات، يجمعها المقاتلون، يمسكون بها على شكل قاذفات هاتفين باسم فلسطين.
لم يكن بمقدور أحد رسم صورة غزة على هيئة رجل واحد، لكنّ وائل فعل ذلك!