رغم أن الحرب الإسرائيلية لا تزال متواصلة على قطاع غزة، إلّا أن بعضاً من نتائجها الملموسة، فَرضت على قيادة العدو بلورة خطاب بديل ينطلق من الإقرار الضمني بالوقائع التي أفرزتها. ومن هنا، جاء اللجوء إلى خيار عملياتي عدواني تحت عنوان «المرحلة الثالثة»، كبديل من خيارَين آخرَين تتعدّد مخاطرهما بين الاعتراف بالهزيمة والانسحاب، أو مواصلة الحرب بالصيغة التي استنفدت نفسها بها. ولعلّ واحداً من أهمّ معايير التقييم في هذا الإطار، هو مقارنة النتائج بالأهداف التي تميّزت، منذ اليوم الأول، بالسقوف المرتفعة، علماً أن طبيعة عملية «طوفان الأقصى» فرضت على قيادة العدو هذه السقوف، كونها أدت إلى انهيار بعض أهمّ مرتكزات الكيان. ومن وراء أهدافه تلك، أراد الاحتلال استعادة هيبته الاستراتيجية، وترميم قوّة الردع لديه، وذلك عبر القضاء على حركة «حماس»، واستعادة الأسرى، وألّا يكون قطاع غزة منطلَقاً لأيّ عمليات تهدّد إسرائيل مستقبلاً.وقد كانت ولا تزال هناك قناعة جامعة في كيان العدو، مفادها أن عدم تحقيق الأهداف المعلنة سيدفع إسرائيل إلى مواجهة تحديات خطيرة تخصّ مستقبلها. ولذلك، فإن بلوغ تلك الأهداف يشكّل مطلباً مُلحّاً بمعايير الأمن القومي، أكثر منه تلبيةً لمصالح سياسية وشخصية لقادة ومسؤولين - وإن كانت هذه المصالح حاضرة في الصورة بالفعل -، متّهَمين، بنظر الرأي العام الإسرائيلي، بالمسؤولية عن الضربة الاستراتيجية التي لحقت بالكيان. إلّا أنه مع مضي نحو 100 يوم على بدء الحرب، لا يوجد في إسرائيل مَن يدعي أن أهداف القتال قد أُنجزت، أو أنها على وشك الإنجاز، وإنّما تَبلور تقدير راسخ بأن ذلك يتطلّب حرباً طويلة. فـ«حماس» لا تزال تمتلك القدرة على المبادرة، وهي استطاعت تحويل احتلال جيش العدو لمساحات من القطاع إلى استنزاف يفاقم من الضغوط على الجمهور الإسرائيلي وقياداته. وفي قضية الأسرى، أَظهرت الحركة صلابة في الموقف وحكمة بارزة في إدارة هذا الملفّ، ما يعني تالياً أن غزة كانت وستبقى ساحة للمقاومة، وأن الجيش الإسرائيلي لن يتمكّن من إزالة التهديد الذي تمثّله، مع الإشارة طبعاً إلى الدور العظيم لثبات أهل المقاومة في القطاع في إحباط أهداف العدو. ولذلك، سيبقى الضغط على سكان غزة هدفاً رئيساً في المرحلة المقبلة، عبر تقييد دخول الاحتياجات الحياتية ومحاولة المساومة عليها.
على أن هذا الفشل وضع قيادة الاحتلال أمام تحدٍّ خطير؛ فلا هي تستطيع وقف الحرب في ظلّ النتائج الحالية، ولا بإمكانها الاستمرار فيها بالصيغة التي كانت عليها، لمجموعة أسباب: ميدانية، إقليمية وأميركية. ومن هنا، جاء اجتراح صيغة «المرحلة الثالثة» التي أصبحت تحتلّ حيّزاً مهمّاً في الخطابَين السياسي والإعلامي الإسرائيلي. لكن هذا التعبير ينطوي على قدْر من التوجيه، كونه يوحي بأن العدو أكمل المرحلتَين السابقتَين، وقرّر الانتقال إلى التالية في الطريق إلى تحقيق الأهداف الكبرى، في حين أن الواقع يقول إن هذا الانتقال جاء نتاجاً للفشل الآنف، واستمراراً للحرب وفقاً لتكتيكات مختلفة. ومع ذلك، يواجه الخيار الأخير مروحة من التحدّيات، من ضمنها عدم قابلية تسويقه في أوساط الجمهور الإسرائيلي، باعتباره خياراً مجدياً من شأنه أن يحقّق غايات القتال. فما لم يُنجَز عبر الهجمات المكثّفة، لا يمكن أن يتحقّق عبر العمليات الموضعية.