غزة | قبل أسبوعين من اليوم، كانت الأسواق الشعبية في مختلف مناطق شمال وادي غزة، تلفظ أنفاسها الأخيرة، إذ فُقدت المعلّبات والمواد التموينية تماماً، وأُجبر الأهالي في ذروة الهجوم البرّي، على طهي حشائش الأرض، وجمع مياه الأمطار، وإنتاج وجبات عديمة القيمة الغذائية، لسدّ جوع أولادهم. الكسترد مثلاً، أضحى وجبة رئيسة لمئات الآلاف من المواطنين النازحين في مراكز الإيواء، وخصوصاً في مخيم جباليا، علماً أن حلوى الفقراء هذه التي كانت تباع سابقاً بأسعار زهيدة على أبواب مدارس «غوث وتشغيل اللاجئين» (أونروا) الابتدائية، ليست سوى ماء يُذاب فيه القليل من النشاء، ثم يُحلّى بمحلول السكّر. اختلف الأمر قليلاً بعدما توالت الانسحابات الإسرائيلية من مناطق واسعة في شمال غزة؛ إذ استطاع الآلاف من الأهالي الوصول إلى بيوتهم المدمّرة جزئياً، واستخرجوا منها ما أمكنهم من الغذاء والمعلبات التي تركوها خلفهم. وإلى هؤلاء، يخوض المزارعون رحلةً خطيرة إلى مزارع البرتقال والحمضيات، ويعودون كلّ يوم بكميات وفيرة من هذا المحصول الذي يشكّل وجبة رئيسة أيضاً للآلاف.على أن التطوّر الأهمّ، والذي يعزّز المقولة الشعبية المتداولَة: «أرض رباط... ما حدا فيها بيموت من الجوع»، هو تمكّن التجار من الوصول إلى مخازن كبيرة من القمح. وعلى رغم أنه ذو مستوى رديء جدّاً، ومخصّص أساساً كعلف للدواب، إلّا أنه شكّل البديل الأفضل لدقيق الذرة المفقود من الأسواق. في زقاق ضيّق في مخيم جباليا، وجد أبو ناصر حلّاً لمشكلة طحن القمح، إذ قام الرجل الخمسيني بإعادة استخدام مطحنة الحبوب القديمة، والتي ورثها والدُه عن والدِه، وظلّت طوال سنوات تحفة يعلوها مفتاح العودة، وتتربّع في زاوية غرفة الضيافة، بوصفها واحدة من القطع الأثرية النادرة التي جلبت من البلاد في عام 1948. نفض أبو ناصر الغبار عن هذه «التحفة»، لأنها أضحت الوسيلة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها في ظلّ انقطاع التيار الكهربائي الذي يمكن بواسطته تشغيل المطاحن الحديثة. يقول الرجل لـ«الأخبار»: «عدنا إلى الطاحونة مجدّداً. يستهلك طحن كيلو واحد من القمح ثلاث ساعات. تتناوب كلّ العائلة بشكل يومي، على إنجاز مهمّة طحن 2 كيلو من القمح، لتوفير حاجتنا من الخبز. لا خيار آخر سوى التأقلم مع أكثر الظروف قسوة».
استطاع الآلاف من الأهالي الوصول إلى بيوتهم المدمّرة جزئياً


في أسواق حيّي الصحابة والنفق، لا يزعم أحد أن الواقع تجاوز مرحلة القحط والمجاعة بكثير. لكن على الأقلّ، تتوفّر اليوم بعض أنواع البقوليات والمعلّبات، التي كانت قبل أسابيع قليلة، مفقودة ونادرة ومرتفعة الثمن مثل حجار الماس. اليوم، بوسعك أن تشاهد كمّيات مقبولة من سمك الفسيخ المملّح، وكميات وفيرة من المكسّرات، غير أن الأزمة تتّصل بضعف القدرة الشرائية للأهالي، حيث فقدت العملة قيمتها، وارتفعت الأسعار بمقدار 10 أضعاف على الأقلّ. تقول أم محمود، وهي موظّفة حكومية لم تحصل على راتبها منذ بدء الحرب: «كلّنا فقراء الآن، قضت الحرب على الطبقة المتوسطة المستورة، بعنا كل ما لدينا من مصاغ وذهب لنشتري الخبز. سعر كيلو الطحين الواحد وصل إلى عشرة دولارات، بعدما كان سعر الثلاثين كيلو قبل الحرب، 9 دولارات. سعر كيلو البصل ارتفع من ربع دولار، إلى 8 دولارات. كل شيء يتجاوز طاقة الأهالي المادية. تحتاج مبلغ 1000 دولار لتأمين حاجيات عائلة مكوّنة من خمسة أفراد لأسبوع واحد فقط».
وسط ذلك كلّه، يغيب أيّ دور لوزارة الاقتصاد الوطني والأجهزة الأمنية، لإعادة الأمور إلى نصابها. ويبرّر مصدر في الشرطة الواقع القائم، بقوله: «عندما يستشهد الشبان في سبيل الوصول إلى كيس القمح أو حبة البرتقال، ويعودون يومياً بكميات ضئيلة جدّاً، لا يمكن لنا أن نرفض. في هذه الظروف الاستثنائية جدّاً، توفير أيّ شيء يمكن أكله في هذه الظروف يُعدّ عملاً بطوليّاً».