لم تفتأ القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في طرح ومناقشة مسألة اليوم التالي بعد حرب غزة، وهو نقاش يشارك فيه فلسطينيون: فصائل، ومعلّقون، ومحلّلون، وأفراد عاديون. إنّ طرحاً كهذا، ونقاشه فلسطينياً، نقطة ضعف تطيح بأصل القضية، أي اللاجئين، وهو أصل بُدئ بمجانبته، ثم التغاضي عنه، وحذفه، بالتدريج، منذ أن طُرح البرنامج المرحلي في سنة 1974، وصولاً إلى نقاش مفاعيل عملية «طوفان الأقصى» العظيمة وانعكاساتها، وهو أمر يعيدنا إلى الكيفية التي عولجت بها فلسطينياً نكسات وانتصارات، بخِفّة أو ضيق أُفق أو يأس قيادات، فصارت النكسات، مثلها مثل الانتصارات، هزائم بالنتيجة، بينما العقل الراجح يحيل النكسات إلى فرص إيجابية، والانتصارات إلى أرباح صافية.عودة إلى البرنامج المرحلي الذي طرح بعد هزيمة الثورة الفلسطينية في الأردن، وهي هزيمة لم يُعوّضها الانتشار الواسع للفصائل في المدن اللبنانية، وتشكيل وحدات قتالية ميليشيوية، لكن أشبه بوحدات عسكرية كلاسيكية، من خلال القواعد الثابتة، والرتب العسكرية، وخلق وظائف وسمت بـ«التفرغ»، سواء كمقاتلين أو حراس مكاتب أو موظفين وعمال في مؤسسات خدمية وإنتاجية هنا وهناك. فكان البرنامج المرحلي هذا ثمرة لذاك التطور السلبي للعمل الفلسطيني، من مفهوم الفدائي الذي لا نراه بل نسمع عنه وعن مروره في المناطق الوعرة لاستطلاع على الحدود أو عمل فدائي في فلسطين، إلى مفهوم المقاتل/ الجندي/ الموظف/ المتفرغ!
لقد وصلت هذه الحالة في نهاية سبعينيات القرن الماضي ومطلع ثمانينياته إلى ترهل منقطع النظير، وبدء تفسخ اجتماعي لما كان يُعرف بالتحالف بين منظمة التحرير والحركة الوطنية اللبنانية، ولم يعُد العداء للمظاهر المسلحة العلنية وغير المُجدية للفصائل الفلسطينية حصراً بمناطق نفوذ «اليمين المسيحي»، بل تعدّتها إلى اشتباكات مسلحة بين أبناء «الصف الواحد» المُفترض في جنوب لبنان، الحاضن الأول للعمل الفدائي الفلسطيني. ليس فقط في جنوب الجنوب، بل وصلت الصرخة إلى صيدا، عاصمة الجنوب، قبل فترة وجيزة من اجتياح 1982، والتي خرجت فيها تظاهرات رافضة للاشتباكات بين فصائل فلسطينية في قلب صيدا، لأنها ألحقت أضراراً مادية وبشرية بالصيداويين، القوميين العرب، والمشاركين في حركتها، والذين يرون في الناصرية ممثلاً لتطلعاتهم القومية. وربما الأكثر أهمية، تغيُّر صورة المخيم في الوجدان «الوطني اللبناني» من أيقونة الفدائي، إلى بقعة انعدام أمن اتسعت لتشمل مدناً ومناطق لبنانية «وطنية»، مثلما تنتشر بقعة الزيت، وتغيّرت صورة اللاجئ الفلسطيني وقضيته، إلى مسلح يحترف قتال أخيه أو جاره، وإلى صورة وطن بديل من حق العودة!
السقطة الثانية كانت عبر إعلان استقلال فلسطين في المؤتمر الوطني في الجزائر في سنة 1988، وهي بداية اعتراف بإسرائيل، مهما تضمّن من شعارات أُخرى، ثورية وسياسية. وكانت هذه السقطة استثماراً سلبياً لتضامن شعبي عربي وعالمي بعد الصمود الأسطوري في بيروت في 1982، وتجاوز حرب المخيمات في لبنان، بعدما أثقلت كاهل طرفَيها اللبناني والفلسطيني، وأول استثمار خاطئ للانتفاضة الأولى التي أعادت خلط الأوراق بشأن القضية الفلسطينية، فرفعتها عالياً: فلسطينياً وعربياً ودولياً، ودفعت مجرم حرب مثل إسحاق رابين إلى الاعتراف بعدم القدرة على هزيمة الشعب الفلسطيني.
السقطة الثالثة، الأعظم، والتي لا تزال مفاعيلها السلبية تفرض نفسها على القضية الفلسطينية، هي اتفاقية «أوسلو» التي ربما كانت نيّة القيادة الفلسطينية منها العودة إلى فلسطين وتثبيت قاعدة جغرافية في قلب فلسطين، لكنها ذهبت بعيداً في تشكيل سلطة دولة في لادولة، حتى باتت سلطة/ شرطية في خدمة المستعمر الصهيوني.
السقطة الرابعة، كانت بعد الانتفاضة الثانية (2002)، إذ بدل أن تستثمر القيادة الفلسطينية في مقاومة الشباب الفلسطيني الاجتياح الإسرائيلي بقيادة شارون للضفة الغربية وقطاع غزة في عدوان «السور الواقي»، كان شعور بالهزيمة الداخلية، ولم تُستثمر المسألة على أنها خسارة عسكرية، كان يُمكن استثمارها سياسياً، ولا سيما أن حركة تضامن عالمية نشأت في حينه. ونتيجة لهذا الشعور بالهزيمة، كان القبول بالشروط الغربية/ العربية/ الإسرائيلية بـ«لبرلة» السلطة الفلسطينية، واستقدام شخصيات عملت في مؤسسات مالية دولية لقيادة العمل الحكومي/ الإداري.
تلك التطورات، تلاها اغتيال الزعيم التاريخي للثورة الفلسطينية ياسر عرفات، بعدما كان الصهاينة الأكثر يمينية في إسرائيل قد اغتالوا شريك عرفات في أوسلو، رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين، ومن ثم بداية انحدار جديد للسلطة الفلسطينية، حتى باتت في يومنا هذا مجردة من كل إمكانية للوقوف في وجه العدوانية الإسرائيلية المجردة. ثم كان الانقسام الجغرافي الذي حدث في 2007، على الرغم من كل ما يُمكن أن يُبرّر أو لا يُبرّر بما جرى في غزة في ذلك العام. في ظلّ كل ذلك، ووسط الضعف المتمادي للسلطة الفلسطينية التي باتت تُصادر أيّ دور لمنظمة التحرير الفلسطينية، جاء «طوفان الأقصى» ليُمثل فرصة جديدة وثمينة للخروج من النفق المُظلم والعودة إلى أصل النضال وجذوته الثورية. قضية فلسطين كلها، المتمثلة أساساً باللاجئين وحق عودتهم إلى بلدهم.
الخوف كل الخوف أن يُستثمر «الطوفان»، سلباً، مثلما جرت العادة، مع تسجيل أن ثمّة ملامح تقود إلى هذه المخاوف: اقتصار الحديث والنقاش على ما بعد «الطوفان»، من جميع تلاوين الحالة السياسية الفلسطينية ومن دون استثناء، على من يحكم غزة؛ والرابط بين الضفة والقطاع، وكأن لا وجود لمسألة لاجئي 1948، التي انطلقت الثورة الفلسطينية المُعاصرة، منها، والتي من دونها لن يكون انتصار، مهما سجل الفلسطينيون من بطولات.