غزة | مرت الأيام ببطء قاتل علينا في هذا المكان، المدرسة التي أصبحت مسمّاة مركزاً للإيواء اعتباطاً، في الحقيقة هي مكان لا يصلح للتدريس، فكيف يكون ملجأً؟ قد يكون مركزاً للإيواء حقاً، لكن ليس للبشر، فهو مليءٌ بالقذارة والأمراض. لم يتغير شيء في هذا «المركز» بل يزداد سوءاً مع استمرار هذه الإبادة واشتدادها. فليس هناك أيّ حلول لانقطاع الكهرباء التي تصل لساعتين يومياً باستخدام مولد كهربائي، وكذلك المياه التي نضطرّ إلى شرائها، وهنا لا أتحدث عن مياه الشرب فقط، بل عن تلك التي تستخدم للغسيل أو التنظيف. وما يوزع علينا من مواد تموينية لا تكفي لشخص واحد، تتقاسمها عائلة كاملة، هناك عائلات لديها القدرة، وإن كانت محدودة، لتوفير ما تحتاج إليه من مأكل ومشرب، لكن هذا ليس متوفراً للجميع. وحتى من لديهم القدرة المادية (المحدودة) لتأمين احتياجاتهم، يقعون أمام إشكال الوصول إلى السلع الضرورية، فقد أمست شحيحة للغاية، بفعل الحصار المفروض على قطاع غزة منذ الحرب، وقبلها، وحدّ من دخول المساعدات. كل هذا جعل الأسعار مرتفعة بصورة فلكية، جعلت الكثير ممن كانوا يقدرون لا يقدرون.نحن في غزة نعدّ أيام خوفنا وأيام جوعنا، كما نعدّ ليالينا الباردة. من يسكن في مراكز الإيواء، التي كانت مدرسة، سيفهمني، سيخبركم عن المعنى الآخر للبرد والقذارة.


ذهبت أيام وأسابيع وشهور، ولم يتبدّل هذا الفصل الكئيب المخيف من حكايتنا. دخل الشتاء ببرده، ولم يواسِ الدفء خوفنا ووحدتنا القاتلة. خرجنا من منازلنا من دون أن نتوقع حدوث كل هذا، حتى في أسوأ توقعاتنا، لم نقدّر أن يلحقنا كل هذا القصف والموت والدمار، لم نكن لنرى هذا في أبشع كوابيسنا، فخرجنا مرغمين تاركين كل شيء وراءنا، بيوتنا وذاكرتنا وصورنا وملابسنا الخفيفة والثقيلة، وما كنا قد خزّنّاه احتياطاً من مواد تموينية وغاز طهي. وها نحن نقول ما اعتدنا على قوله «لو بنعرف هيك كنت جبت أواعي الشتا... إلخ». هذا الندب المستمر يكون دوماً على شكل سخرية من أنفسنا، ومن الأشياء التي كنا نظن بأنها مقدسة.
مهما غالت قوات الاحتلال في قتلها ومجازرها، فلا بد أن يكون هنالك حدّ تتوقف عنده أو يقف العالم كله للدفاع عنا، لكن... هذا العالم لا يرتدي اليوم سوى سرواله الممزق، وهو الذي يخفي باقي قذارته. فأمام هذه الإبادة التي تقوم بها حكومة الاحتلال علناً وبمنهجية عبر استراتيجيات عدة مثل التجويع والترهيب والقصف المتعمّد للبيوت والمنشآت المدنية ومراكز الإيواء، إلى استراتيجية تدمير المنظومة الصحية بحربها التي تشنها أيضاً على المستشفيات، وفصل مناطق القطاع ومحاصرتها، تحت ذرائع وهمية يكذّبها العقل والمنطق، ويصدّقها متطرف يجلس في البيت الأبيض، من أجل أهداف لم تتحقق، تدعمها أميركا بكل الوسائل القتالية واللوجستية. والمحصّلة ماذا؟ مزيد من الإرهاب والقتل والتدمير والتنكيل، ولن يتحقق أي شيء، وعليهم أن يكونوا أكثر وقاحة، ليعترفوا أمام العالم بأننا الهدف.
لم يجرؤ أحد على اتخاذ أي موقف سوى إنشاء يتطاير في قاعات الأمم المتحدة، ووسائل الإعلام عن وقف إطلاق النار، ووهم السلام وحل الدولتين. عن أيّ سلام يتحدثون، وهم يرون كل هذه الانتهاكات تحدث يومياً، منذ توقيع اتفاقية السلام المزعوم في «أوسلو»؟ وها نحن ندفع ضريبة «السلام» من دمائنا وأرواحنا وأرضنا. فماذا تبقّى من سلامهم ومن دولتنا التي لم يعترفوا حتى بها؟! لا شيء، لا شيء البتة. هذا هو الوهم الذي ينكره الكل، السراب الذي يطمح إليه اللاهث في صحراء استسلامه.
أشعر بالخجل من نفسي وأنا أتحدّث عن معاناتنا كهاربين من الموت، في ظل ما يعانيه الباقون شمال القطاع.
هل تخشى الموت؟ ذلك العصفور أجاب: ليس لديّ فكرة. لعلنا نحن كذلك، لا نخشى الموت بحدّ ذاته، إنما نخشى من كيفية هذا الموت. تعدّدت الأسباب والموت واحد، لكن أليس الموت جوعاً أشدّها قسوة، أو أن تصبح أشلاء، أو حين يقصف بيتك ويصير قبرك، وتبقى بين طبقات الاسمنت المنهار على جسدك، أو أن تموت وأنت تبحث عن طعام أطفالك، فيصيبك القناص برصاصته، فتبقى ملقى على الأرض تحت الشمس والبرد والذباب، لتبدأ الكلاب بنهش لحمك، أو ربما حين تصاب ولا تجد من يسعفك، فتموت متألماً بلا علاج.
تجرّعنا الألم بكل صنوفه، ولعل أسمى أمنياتنا موت رحيم، وقبر، حتى ولو جماعياً.
أمّا أنا، بعد الذي قلته، ماذا فعلت؟ وأسأل نفسي، أليس هروبنا القسري من الموت خذلاناً للأرض، ولتلك الأرواح التي اختارت هذا الدرب، وللذين اختاروا الصمود في بيوتهم؟
أنا يأكلني العار، وأنا المجبر على الهروب تحت ضغط تلك النظرات الخائفة من موت حقيقي.
طوبى لمن اختار الصمود ونجا، طوبى لمن اختار درب النضال وانتصر.