على وقع الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام «محكمة العدل الدولية»، «استفاق» أخيراً بعض الخبراء القانونيين الإسرائيليين، لا من أجل إدانة أفعال الإبادة الجماعية الحاصلة في قطاع غزة، بل من أجل التحذير المتأخر من مغبّة تصريحات قادة الحرب، والتي جاهرت بنية نكب غزة، وتهجير سكانها، وإعادة بناء المستوطنات فيها، بما شكّل «الأساس النفسي والعقلي» للجرائم المرتكبة. ومن بين هؤلاء، الخبير القانوني الإسرائيلي، مردخاي كرمنيستر، الذي كتب في صحيفة «هآرتس»، أمس، أنه «لن يكون من الصواب الكفاح ضد قرارات تهدف إلى ضمان إيصال المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة، وتفرض على إسرائيل واجب مكافحة التحريض على الإبادة الجماعية»، معتبراً أنه إذا أفضت قرارات كهذه إلى سقوط الحكومة الإسرائيلية «فلن يكون ردّنا بالبكاء المرير». ورأى أن المعضلة التي تجد إسرائيل نفسها ماثلة أمامها في لاهاي هي «نفسية بالأساس»؛ إذ «ليس من السهل على مؤسسة قضائية هدم المبادئ الأساسية التي تمنحها صلاحيات. وللتبسيط، فإنه بالنسبة إلى من لا يعيش هنا، وهو شخص أخلاقي، يُعد القتال وضعاً ضارّاً يفضّل الامتناع عنه. ولهذا السبب بالذات، إسرائيل ملزمة بأن تضع على رأس اهتمامها ضرورة منع اتخاذ قرار بوقف القتال». وأقرّ بأنه «يوجد تحريض في إسرائيل على تنفيذ إبادة جماعية ضد الفلسطينيين»، معتبراً أن «من جلب هذه المصيبة على رؤوسنا هم أشخاص يتولّون أرفع المناصب، بغبائهم وتعجرفهم وضعفهم الإنساني»، محملاً الحكومة الإسرائيلية المسؤولية عن «الفشل الذريع»؛ إذ بحسبه فإنّ «الحد الأدنى الذي كان بالإمكان توقّعه، هو أن يضرب رئيس الحكومة على الطاولة، ويوقف أصوات النشاز التي تدعو إلى إبادة جماعية»، مع العلم أنّ الداعين إلى الإبادة ليسوا أصواتاً «نشازاً»، بل إن نتنياهو يقف على رأسهم، وهو كان أوّل من حرّض عليها، بإسقاطه أساطير توراتية على الحرب، وتشبيهه الغزيين بـ«العماليق». كما أن المحرضين على التهجير والتجويع والتعطيش بحق من سمّوهم «حيوانات بشرية»، هم نوّاب في الكنيست، ووزراء في الحكومة، فيما المنفّذون هم مئات آلاف الجنود، الذين لم يرتكبوا المجازر فقط، بل رقصوا على أنقاض بيوت الفلسطينيين، على وقع أنغام «فنانين» إسرائيليين ألّفوا أغاني خاصة تدعو إلى القتل.
الداعون إلى الإبادة ليسوا أصواتاً «نشازاً»، بل إنّ نتنياهو يقف على رأسهم


وتعليقاً على استخدام نتنياهو مصطلح «العماليق» الذين يسعون وفقاً للتوراة إلى «إبادة اليهود»، رأى كرمنيتسر أن هذا الاستخدام «مسيء إلى الديانة اليهودية؛ إذ يشرعن أخطر المحظورات باسمها»، معتبراً أنه «ينبغي اجتثاث التديّن المتصاعد في الجيش وخارجه من الجذور. ولا ينبغي للجيش أن يسمح لنفسه بالاستسلام لذلك عبر التجاهل»، في إشارة إلى تيار الصهيونية الدينية المتنامي. كما اعتبر أنه «باستمرار (الإسرائيليين)، ومن ضمنهم أحزاب المعارضة، في رفض السلام، سيكون مصيرنا مشابهاً لمصير نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والذي انتهى بطرد الأخير من المدينة»، في إشارة إلى «المجتمع الدولي». مع ذلك، نبّه الخبير القانوني إلى أنه إذا أصدرت المحكمة الدولية قراراً ضدّ إسرائيل، فإن ذلك «سيكبّل أيدي» الأخيرة، «مبقياً لحماس نطاقاً لممارسة العمل العدواني»، وهو ما سيجعل من المحكمة «جانباً يقف في صف المعتدي، وضد ضحايا هجوم حماس في الماضي والحاضر والمستقبل». والأمر «الأخطر»، بحسبه، هو أن المحكمة «ستضع نفسها في جانب الخاطفين وضد المختطفين، وستسعى ضد الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس»، لافتاً إلى أن دعوى جنوب أفريقيا «غيّبت حماس»، علماً أن الطاقم القانوني الجنوب أفريقي أدان هجوم «طوفان الأقصى».
من جهته، رأى النائب السابق للمستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية في شؤون القانون الدولي، روعي شايندروف، أن «حجج الطاقم القانوني الجنوب أفريقي لم تكن مفاجأة»، معتبراً أن هذا الأخير «لم يرتكب أخطاء جسيمة»، وبالتالي فإنّ دحض إسرائيل لحججه «تحدٍّ ينبغي التعامل معه». وأعرب عن اعتقاده بأن ثمة «تنافساً بين الروايات»، وهو أكبر من أن يكون «مجرّد حجج قانونية وتقنية»؛ وبالتالي، «سيتعيّن على إسرائيل تقديم روايتها بشكل جيّد»، وهي أنها «لم تختر الحرب، بل فُرضت عليها بعد ارتكاب حماس أعمالاً فظيعة، وبالتالي هي تدافع عن نفسها». ووصف عرض الطاقم الجنوب أفريقي أشرطة مصوّرة تظهر جنود الجيش الإسرائيلي في غزة وهم يتفاخرون بالقتل بأنه «تلاعب»؛ إذ تدّعي إسرائيل أن الأصوات التحريضية على القتل والإبادة «لا تعكس السياسة الرسمية».
أما النائب السابق للمدعي العام، المحامي يهودا شيفر، فوصف الاستراتيجية التي اعتمدها الطاقم القانوني لجنوب أفريقيا، بأنها «قذف للوحل كيفما كان، على أمل أن يلتصق بشي ما»، وذلك «لعرضهم مقاطع فيديو من تطبيق تيك توك نشرها جنود، فضلاً عن تصريحات غير مسؤولة لسياسيين وتقارير مشكوك فيها». واعتبر أن جزءاً كبيراً من الإجراءات عبارة عن «محاكمة صوية سياسية؛ فقد عادت جنوب أفريقيا إلى تصرفات إسرائيل منذ عام 1948، والتي لا صلة لها بفحوى المناقشات الدائرة في الجلسة»، مشككاً في أن تنجح المحكمة، بعد سنوات من استمرار هذه الجلسات، «في إثبات أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية». مع ذلك، رأى أن «النجاح بالنسبة إلى جنوب أفريقيا يكون في أنها تستمر في إظهار أننا في المنطقة الرمادية، ما سيعزز ميل المحكمة إلى إصدار أوامر مؤقتة للحؤول دون مقتل عدد أكبر بكثير». ومن هنا، شدّد أن على إسرائيل «إقناع المحكمة بأن لدينا آليات للتحقيق في جميع القضايا في المنطقة الرمادية؛ فهناك نظام من المستشارين القانونيين العسكريين، وشرطة تحقيق عسكرية ومكتب مدعٍ عسكري مستقلّ. وفوق كل ذلك، هناك المحكمة العليا، التي يمكنها تلقي الالتماسات الفلسطينية ومناقشتها»، وهو ما يجب، بحسبه، أن «تمنحه المحكمة الدولية وزناً، لأن هذه الآليات (القانونية في إسرائيل) لا توجد في أي دولة أخرى».
إلى ذلك، اعتبرت الخبيرة في القانون الدولي، تمار مغيدو، أن «حجة النفاق (في اتهام نتنياهو لجنوب أفريقيا) لن تخدم إسرائيل في المحكمة، بل ستضرّها فعلياً؛ إذ إن كُثراً في العالم يرون الأمور بالعين التي تنظر فيها جنوب أفريقيا (إلى الجرائم التي ترتكبها إسرائيل)».