في سابقة هي الأولى من نوعها، مثلت إسرائيل أمام أعلى هيئة قضائية دولية. ومع انقضاء اليوم الأول للمرافعات، والذي خُصّص للاستماع إلى فريق الادّعاء ممثَّلاً بجنوب أفريقيا، استُهلّت، أمس، جلسة الاستماع إلى فريق «الدفاع» الممثِّل لإسرائيل. وعلى وقْع تظاهرات مندّدة بالعدوان على غزة أمام قاعة المحكمة في لاهاي الهولندية، وترحيب منظّمات حقوقية دولية بالدعوى، أبرزها «منظمة العفو الدولية»، حين وصفتها بـ»الخطوة الضرورية للمساعدة في حماية المدنيين الفلسطينيين، وإنهاء الكارثة الإنسانية في قطاع غزة المحتلّ»، قام الفريق القانوني الممثِّل لدولة الاحتلال بـ»إلقاء حجّته» على مسامع هيئة المحكمة، والعالم.
الفريق القانوني يتبنّى الرواية «الوردية»!
متسلّحة برواية واهية، غالبيتها مستقاة من بيانات رسمية للجيش الإسرائيلي، وتصريحات صحافية لأركان حكومة بنيامين نتنياهو، جاءت المرافعة الإسرائيلية ذات طابع تبريري، وتضليلي، معرّجة على ما دأب مسؤولو الاحتلال على ترديده من مزاعم حول إقامة «ممرّات إنسانية آمنة للمدنيين»، فضلاً عن تكرار الادّعاء بعدم عرقلة الجانب الإسرائيلي إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى غزة، كالوقود والماء والغذاء، أو أيّ شكل من أشكال حرمان الفلسطينيين من الخدمات الأساسية، كالاتصالات وغيرها. واستعان الفريق القانوني الإسرائيلي بصور عن «المسرحية» التي أدّاها جنود الاحتلال بعد الهجوم على مستشفى «الشفاء»، حيث حملوا بعض المعدّات الطبية التي زعموا أنهم أحضروها خصيصاً للأطفال الخُدّج في المستشفى، بقصد «تصدير إنسانية» إسرائيل.
أنكر أعضاء الفريق القانوني الممثِّل لإسرائيل، كلّ الحقائق الموثّقة بالصور ومقاطع الفيديو، وتقارير حقوقية وأممية


وفي مستهلّ الجلسة، رأى المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، تال بيكر، وهو أحد أعضاء الفريق، أنّ الدعوى الجنوب أفريقية قدَّمت ما اعتبره «صورة مشوّهة» للأحداث. ومن خلال استحضار «شواهد» من الحرب العالمية الثانية، حاول بيكر الطعن في ما ورد في الدعوى، من تدابير وقائية عاجلة، بخاصّة مطالبتها بالوقف الفوري للعمليات العسكرية في غزة، متّهماً بريتوريا بـ»السعي إلى تقويض حقّ إسرائيل الأصيل في الدفاع عن نفسها»، مردفاً أن حركة «حماس»، التي وصفها بـ الإرهابية»، هي الجهة التي «تسعى إلى إبادة جماعية لإسرائيل»، وهي الطرف الذي يقوم بـ»ازدراء القانون (الدولي)، وليس إسرائيل». كما حاول بيكر هدْم الأسس القانونية للدعوى، من خلال ادّعائه أن «النيّة لتدمير شعب كلّياً أو جزئياً، غير موجودة على الإطلاق»، ملمّحاً إلى انحياز الجانب الأفريقي إلى الشعب الفلسطيني، عبر الحديث عن «علاقات وثيقة» بين بريتوريا و»حماس».
هذا الموقف تبنّاه أيضاً رئيس فريق الدفاع عن إسرائيل، البروفيسور البريطاني مالكولم ناثان شو، حين استنكر إصرار الطرف المدّعي على وضع مجريات الحرب على غزة في سياق ما يتعرّض له الفلسطينيون منذ 75 عاماً على أيدي سلطات الاحتلال، معتبراً أن السياق الحقيقي للدعوى، هو ما سمّاه «الهجوم الذي شنّته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر».

«فريق إسرائيل»: «لا أساس قانونياً لوقوع إبادة» ولا صلاحية للمحكمة
أنكر أعضاء الفريق القانوني الممثِّل لإسرائيل، كلّ الحقائق الموثّقة بالصور ومقاطع الفيديو، وتقارير حقوقية وأممية، مدافعين بأن مضامينها تشكّل «أحداثاً فردية»، و»لا تستدعي تطبيق الإجراءات الاحترازية»، بخاصّة تلك المتعلّقة بالوقف الفوري لإطلاق النار، الذي تطالب به جنوب أفريقيا. كذلك، قفز الفريق فوق حقيقة مقتل أكثر من 20 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، لتسليط الضوء على مقتل زهاء ألفين من الإسرائيليين، متجاهلاً بذلك «مبدأ التناسب» المتعارف عليه في القوانين الدولية، ومطالباً المحكمة بمراعاة المبدأ نفسه لدى النظر في القضية، بزعم أن الأخيرة معنيّة بالأخذ بمصالح طرفَي النزاع، وموازنة مصالحهما، وضمناً الإسرائيلية.
وفي موقف دفاعي باهت، وغير موفّق، من وجهة نظر قانونيين، تجاهل الفريق تصريحات علنية لرئيس حكومة الاحتلال، ولوزراء في حكومته، ومن جملتها استحضار نتنياهو «أدبيات دينية» لتبرير المقتلة، على غرار تشبيه الفلسطينيين بـ»العماليق»، في إشارة إلى «الأعداء» وفق الرواية «اليهودية»، فضلاً عن دعوة وزير التراث، عميحاي إلياهو، إلى استخدام أسلحة نووية ضدّ الفلسطينيين في غزة، وهو ما يشكّل، من وجهة نظر قانونية، أدلّة دامغة وقطعية على وجود نيّة إبادة جماعية.
كذلك، جهد أعضاء الفريق الإسرائيلي في الدفع بعدم اختصاص المحكمة، تارة من بوابة الحديث عن آليات قضائية دولية أخرى، وتارة ثانية عبر محاولة الترويج لوجود آليات قانونية مزعومة داخل الكيان، تُعدّ بديلاً للقضاء الدولي، تتيح محاكمة العسكريين على خلفية ارتكاباتهم في حالات الحرب. وكمؤشر إلى وجود خشية إسرائيلية فعلية من إمكانية اتّخاذ المحكمة قراراً يدين إسرائيل، وهي خشية عكستها مواقف الحكومة والمعارضة على حد سواء، كحديث نتنياهو عن أنه «تمّ تقديم أكاذيب» إلى «العدل الدولية»، واعتبار زعيم المعارضة، يائير لابيد، أن المحكمة تقوم «بمحاكمة الضحايا، ولا تحاكم الجناة»، استند الفريق إلى أحكام تدعو إلى وقف إطلاق النار، سبق أن أصدرتها المحكمة، في حالتَي أوكرانيا وميانمار، من دون أن تُنفّذ، لتبرير رفض تل أبيب بشكل مسبق أيّ قرار مشابه.
وفي تعليقها على ذلك، رأت قناة «كان» العبرية أنّ هناك أمراً يتعزّز مع اختتام جلسة المرافعة التي قدّمها الفريق القانوني الإسرائيلي، وهو التقدير بأنّ هناك «قراراً ما ستُصدره المحكمة ضدّ إسرائيل»، متوقّفةً عند «نجاح دولة جنوب أفريقيا في أن تجرّ إلى النقاش، الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني كلّه، وليس فقط الحرب في غزة». بدورها، لفتت صحيفة «لوموند» الفرنسية إلى أن الشكوى الجنوب أفريقية تُعدّ «أمراً محزناً» بالنسبة إلى غالبية الإسرائيليين، لأن الكيان الذي قام في أعقاب «المحرقة»، يجد نفسه اليوم متّهماً بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، مبيّنةً أن ما جرى يمكن عدّه فرصة لتسليط الضوء على المحنة التي يعيشها الفلسطينيون.