أرادت الولايات المتحدة وبريطانيا، باعتدائهما على اليمن، فرض معادلة مختلفة في الصراع، عن تلك التي فرضتها صنعاء في المنطقة. وهما قدّرتا أنّ من شأن توجيه ضربات إلى الأصول البحرية والعسكرية اليمنية، ردع «أنصار الله» وإجبارها على رفع الحصار عن إسرائيل. غير أن عيب المعادلة التي استهدفتاها، هو أن الرد الأميركي - البريطاني على أي استهداف يمني للمصالح الإسرائيلية، سيحوّل البحر الأحمر وبحر العرب وباب المندب إلى بؤرة توتّر، ما يسبّب ضرراً للملاحة البحرية بشكل تلقائي. وفي المقابل، تنجح صنعاء، عبر حصر إجراءاتها بمنع السفن الإسرائيلية من المرور في مضيق باب المندب، في التحلّل من مسؤولية التوتير في هذه المنطقة. لا بل يمكن القول إن الغارات الأميركية - البريطانية أراحت اليمن، وسهّلت عليه المعركة السياسية، وكذلك المعركة لكسب الرأي العام المحلي والعربي، وهذا ما أكده الكثير من المسؤولين الأوروبيين الذين اعتبروا أن «أنصار الله» حازت تأييداً في العالمين العربي والإسلامي لنصرتها الشعب الفلسطيني وانخراطها إلى جانب مقاومته في الدفاع عن قطاع غزة.وفي أعقاب الضربات، توقّع خبراء ومحلّلون غربيون أن تخسر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشكل كبير، محذّرين من أن يؤدي اتساع دائرة النيران في البحر الأحمر إلى زيادة أسعار النفط، ما يؤثّر على كل شيء، ويزيد الضغط على الاقتصاد العالمي المترابط والذي يعاني من التضخّم. وقد تطاول التأثيرات المتتابعة لمثل هذه الاضطرابات، النمو الاقتصادي والموازين التجارية، بل حتى العمالة، فضلاً عن أن التورّط أكثر يؤدي إلى توسعة الصراع في الشرق الأوسط مع عواقب عميقة. وفي هذا السياق، رأت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، معزولان دولياً بشكل مثير للقلق، ويقحمان نفسيهما في حرب مفتوحة لا يمكنهما الفوز فيها، في حين اعتبرت وكالة «بلومبرغ» أن الهجوم انتهى لمصلحة إيران. وعلّق السفير الأميركي السابق في اليمن، جيرالد فايرستاين، بدوره، على الضربات بالقول إن واشنطن منحت «أنصار الله» ما أرادوه بالضبط، واصفاً إياهم بأنهم «واثقون من قدرتهم على الصمود أمام أي شيء نقدم عليه». كذلك، نبّه محلّلون غربيون إلى أن الصراع في البحر الأحمر يهدّد بالانتشار، ويُعيد تصنيف المنطقة عالية المخاطر، الأمر الذي سيُجبر ما تبقى من شركات النقل البحري على البحث عن طرق أكثر أمناً، على حساب الوقت والكلفة.
وإدراكاً منها لخطورة المسألة، سارعت دول كبرى مثل الصين وروسيا، ودول عربية وازنة كمصر والجزائر وتلك المشاطئة للبحر الأحمر إلى إدانة العدوان، والتحذير من خطورته على السلامة البحرية والاقتصاد العالمي. لا بل إن دولاً أوروبية حليفة للولايات المتحدة كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا رفضت المشاركة في الاعتداء للاعتبار نفسه. ولعلّ تصريح وزير الدفاع الإيطالي، جويدو كروزيتو، لوكالة «رويترز»، كان أفضل تعبير عن ذلك، حين قال «إنها مشكلة كبيرة، وهي نتيجة اندلاع (حروب) أخرى. لن أرغب في فتح جبهة ثالثة للحرب في هذا الوقت»، في إشارة إلى الصراعين الحاليين في أوكرانيا وغزة.
تنظر الولايات المتحدة إلى التحدي اليمني من زاوية ما ينتظرها في المحيط الهادي في مواجهة الصين


ولم تكن النتائج العسكرية بأفضل من النتائج السياسية، إذ إن القوات اليمنية تتحسّب منذ بداية انخراطها إلى جانب المقاومة الفلسطينية، لاحتمال استهداف البلد. ولذا، عملت على إخفاء القدرات العسكرية بشكل يقلّل من وقوعها فريسة للضربات الجوية الإسرائيلية أو الأميركية، فضلاً عن أن الجيش اليمني راكم طوال الأعوام الماضية خبرات كبيرة في مجال التكيّف مع الغارات الجوية والتمويه وتضليل الأقمار الاصطناعية والوسائل الفنية المختلفة، ونفّذ خططاً في التموضع والانتشار آخذاً في الحسبان التفوّق الجوي. كما لجأت قواته إلى ما يُصطلح على تسميته «الدفاع السلبي»، أي اتخاذ مجموعة من التدابير الوقائية لتحييد المنشآت عن الاستهداف، وتقليل الأضرار التي يمكن أن تأتي نتيجة الهجمات الجوية بشكل أساسي، إلى الحد الأدنى، من دون الحاجة إلى استخدام أسلحة. وهذا ما ذهب تقرير لصحيفة «واشنطن بوست» إليه، بالقول إن الولايات المتحدة وبريطانيا «دخلتا حرباً ستواجهان عبرها عدواً اعتاد على القتال وخوض الحروب»، مضيفة أنه «رغم وصف زعماء الولايات المتحدة وبريطانيا الهجمات بأنها ناجحة، إلا أن المحللين يرون أنها تكشف عن فشل واشنطن في احتواء التداعيات الإقليمية لحرب غزة». ووفقاً لهؤلاء، فإن «الضربات لن تردع أنصار الله عن مواصلة مهاجمة سفن الشحن والسفن الحربية في المنطقة». وفي السياق نفسه، نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسؤولين أميركيين تحذيرهم من أن معظم القدرة الهجومية لـ«الحوثيين» هي منصّات متنقّلة يمكن إخفاؤها بسهولة، وأن العثور على أهداف لهم أكثر صعوبة مما كان متوقعاً.
على أن ما دفع واشنطن إلى توجيه الضربات، هو أنها وجدت نفسها أمام موقف بالغ التعقيد يمسّ بسمعتها وهيبتها، ويعرّض مفهوم الردع لديها للتراجع، ويضعضع ثقة حلفائها بها في حال الفشل أو العجز عن الالتزام بمصالحهم. كما أن الأمن البحري والسيطرة الأمنية على الساحل اليمني تدخل مباشرة في حسابات المصالح الأميركية، وفقاً لما صرّح به وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، أثناء زيارته الأخيرة للمنطقة. ولم يعد خافياً أن الصراع في المنطقة له طابع دولي؛ إذ تنظر الولايات المتحدة إلى التحدي الذي يشكّله اليمن في أهم منطقة تجارية في العالم، من زاوية ما ينتظرها في المحيط الهادئ في مواجهة الصين، إذ إن تراجعها وعجزها عن الرد على اليمن، يعطي إشارة ضعف أمام بكين، مع ما يترتّب على ذلك من آثار كارثية في السباق الأميركي - الصيني على ريادة العالم.