ثلاث مرّات متتاليّة، منع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مناقشة مسألة «اليوم التالي» للحرب على غزة، في جلسات «الكابينت»، حتى أنه أحضر وزير التعاون الإقليمي، دافيد إمسالم (المشهور بافتعال المشكلات) إلى إحداها - رغم أن ذلك ممنوع -، بهدف شنّ هجوم ضدّ رئيس هيئة الأركان، هرتسي هليفي، بحجّة إعلان الأخير تشكيل لجنة تحقيق في إخفاقات الجيش، من دون التشاور مع «مجلس الحرب». أمّا الهدف الحقيقي للهجوم على هليفي، فكان إحباط مناقشة «اليوم التالي»، والتي يتّفق محلّلون إسرائيليون على أنها نابعة من مخاوف نتنياهو الشخصيّة من أن يفضي النقاش حول هذا الأمر إلى تفكيك ائتلافه. إذ إن أحزاب اليمين المتطرّف ترفض أيّ صيغة لا تؤدي إلى السيطرة الكاملة على غزة، وعودة الاستيطان فيه، كتوطئة لفرض السيادة الإسرائيلية على كامل أرض فلسطين، وتالياً إسدال الستارة نهائياً على مبدأ «إدارة الصراع» الذي اتّبعته إسرائيل منذ نهاية الانتفاضة الثانية. ويأتي هذا في وقت ما فتئت تتّسع فيه الخلافات بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، والتي تجلّت خصوصاً في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى تل أبيب. ووفقاً لموقعَي «واللا» الإسرائيلي، و«أكسيوس» الأميركي، فإن هذه الخلافات تتعلّق بالبدء الفعلي لـ«المرحلة الثالثة» من الحرب، و«توسيع إدخال المساعدات إلى غزة»، و«تقديم تصوّر إسرائيلي في شأن اليوم التالي يتضمّن تسلّم سلطة فلسطينية متجدّدة الإدارة المدنية في القطاع».وفي هذا الإطار، وصف المحلّل السياسي لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، ناحوم برنياع، الحرب الدائرة بأنها «بلا نهاية»، وأنها لا تعدو كونها حرباً لـ«معاقبة الفلسطينيين والانتقام منهم». وأضاف: «إذا افترضنا أنّنا لا نمتلك الإرادة ولا القدرة على إلقاء أكثر من مليونَي إنسان في البحر، فإن المشكلة التي تفرضها غزة لن تُحلّ بالهجوم. ومن دون بديل، فإمّا أن تعود حماس إلى السيطرة على غزة، أو أن يظلّ جنود الجيش هناك إلى الأبد. والخيار الثالث، هو الفوضى على غرار الصومال»، عازياً ذلك إلى الخصومة بين نتنياهو، ووزير الأمن، يوآف غالانت، المسؤولين الأرفع في «كابينت الحرب». وبرأي برنياع، فإن نتنياهو، ومنذ اليوم الأول، «سعى إلى تصدير غالانت كمن تدار الحرب من دونه»، فيما أقرّ بأن «المئة يوم الفائتة تُظهر المصاعب، فالأهداف لم تتحقَّق، كما أن معظم الأسرى لا يزالون في قبضة حماس»، معتبراً أن قمّة الخصومة تمّ التعبير عنها في الجلسة الأخيرة لـ«الكابينت» مع هليفي؛ إذ خرج غالانت من الجلسة في قسمها الأول، بعدما مُنع من اصطحاب مساعده، فيما حضر نتنياهو رفقة أربعة من مساعديه السياسيين.
هذا الوضع الصعب «ينسحب على الكابينت الأمني الموسّع»، الذي «ينبغي أن يتّخذ، بموجب القانون، القرارات المصيرية المهمّة، في حين أوضحت إسرائيل لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، الأسبوع الماضي، عبر ممثّليها، أن المجلس (الموسّع) الذي يضمّ الوزيرَين (إيتمار) بن غفير، (وبتسلئيل) سموتريتش، لا علاقة له بالقرارات المتّخذة في المجالات الأمنية». وما تقدّم، وفقاً لبرنياع، «كذب»، لأن هناك «تأثيراً هائلاً للوزيرَين، الذي يؤدي تخوّف نتنياهو منهما إلى إعاقة النقاش حول اليوم التالي أو اتّخاذ أيّ قرار في شأنه، ما يصعّب عمل الجيش في غزة، كونه يجري من دون خطّة، وهو ما ينعكس أيضاً على العلاقات مع الإدارة الأميركية».
أكثر من نصف الإسرائيليين يعتقدون بأنه بمجرّد نهاية الحرب، ستعود الانقسامات التي سادت قبلها


ورغم كلّ ما تقدَّم، فإن ثمّة جوانب ذات أهمية بالغة يغفلها المحلّلون الإسرائيليون، ولا يحتسبونها في خانة المعضلات التي بسببها يعرقل نتنياهو نقاش «اليوم التالي»، وعلى رأسها أن نهاية الحرب لا تتعلّق بغزة فقط، بل أيضاً بمستقبل إسرائيل نفسها من النواحي كافة، وفي مقدّمها: الاقتصاد، العلاقات مع دول العالم، المشهد السياسي، الخلافات والانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي، الوضع على الجبهة الشمالية، الحالة الأمنية الاستراتيجية ومآلاتها على مجمل الجبهات المفتوحة، فضلاً عن علاقات الفلسطينيين في الداخل مع الدولة، وعلاقة المستوى السياسي الإسرائيلي مع المستويَين الأمني والعسكري.
في الجانب الاقتصادي، أقرّ محافظ البنك المركزي الإسرائيلي، أمير يارون، في آخر رسالة وجّهها إلى نتنياهو، وحثّه فيها على تقليص الوزارات غير الضرورية، بأن التداعيات الاقتصادية السلبية التي تُخلّفها الحرب ستكون لها انعكاسات بعيدة المدى، فيما على المستوى الدولي والعلاقات الديبلوماسية، حوّلت الحرب، إسرائيل إلى دولة شبه منبوذة في العالم، وهو ما تجلّيه التظاهرات التي ينظّمها مناصرو فلسطين في جميع أنحاء العالم، فضلاً عن جلب إسرائيل إلى أرفع هيئة قضائية دولية للنظر في اتهامها بجريمة «الإبادة الجماعية في غزة». وعلى الجبهة الداخلية، فإن أكثر من نصف الإسرائيليين يعتقدون بأنه بمجرّد نهاية الحرب، ستعود الانقسامات التي سادت قبلها، وفقاً لاستطلاع رأي نشره معهد «ميدغام» الإسرائيلي، بل ستتعمّق أكثر بفعل تبادل الاتهامات حول المسؤولية عن الإخفاق الأكبر في تاريخ إسرائيل، أي «طوفان الأقصى». وحتى قبل أن تنتهي الحرب، بدأت تتعزّز هذه الخلافات بتقاطع الحَراك المطالب بتحرير الأسرى فوراً، مع المعارضة السياسية المنادية بإسقاط الحكومة، وهو ما عُبر عنه في الاحتجاجات التي شارك فيها عشرات آلاف الإسرائيليين ليل السبت - الأحد في تل أبيب. إضافةً إلى ما سبق، فإن إسرائيل ليست لديها إجابة واضحة حول حالة الأمن الاستراتيجي، وكيف ستتعامل مع الجبهات التي فُتحت عليها منذ بدء الحرب، فيما لا تمتلك إجابة أصلاً تردّ بها على حوالى 200 ألف مستوطن من الشمال والجنوب، يرفضون العودة إلى منازلهم قبل استعادة الأمن.