غزة | يَصدق أكثر الناس، حين يؤكدون أنه لم يصل إليهم منذ بداية الحرب، أيّ صنف من المساعدات التي دخلت منها كميات بسيطة جداً إلى مناطق شمال وادي غزة. المشهد في شارع الرشيد غربي المدينة، يقدم تصوراً واضحاً حول حقيقة هذه الخطوة الشكلية. منذ عدّة أيام، تَدخل إلى هناك، بشكل يومي، أربع شاحنات فقط من الطحين والمعلبات. ومن هذا الشارع الساحلي، تصل إلى ميناء غزة المدمر، إذ لا تستقبلها أيّ لجنة حكومية أو دولية، وتُترك تلك الكميات نُهباً لأعداد كبيرة من الناس الجوعى، ومن عصابات السرقة المنظمة، التي أضحت تمتهن سرقة المساعدات ثمّ إعادة بيعها بأسعار فلكية.في مطلع الأسبوع الجاري، حاولت الأجهزة الأمنية، أو ما تبقى منها، صناعة آلية تتسلم عبرها المساعدات وتؤمنها ثمّ تعيد توزيعها. إلّا أنه فور دخول الشاحنات، واعتلائها من عدد من عناصر الأجهزة الأمنية، تعرضت لقصف جوي، تسبب باستشهاد ثلاثة من عناصر الشرطة، فيما سمح العدو عقب ذلك، بسرقة تلك الكميات من دون أيّ رقابة وتنظيم. من وجهة نظر إسرائيلية، فإن خطوة دخول النزر اليسير من المساعدات على هذه الشاكلة، تستهدف تخفيف الضغط الأميركي والدولي، وتسجيل موقف بتقديم استجابة لتدارك المجاعة المرتقبة. لكن الأزمة، بالنسبة إلى العدو اليوم، هي في ظهور الأجهزة الأمنية بسلاحها وزيها الرسمي، بعد نحو 100 يوم من حرب تركزت أكثرها في المنطقة الشمالية، وادّعت فيها إسرائيل أنها استطاعت تقويض قدرات حركة «حماس» الحكومية والعسكرية.
الجهود الطوعية التي لا تأخذ الشكل المنظّم، أضحت الخيار الوحيد لإدارة الواقع الاستثنائي


على أن البُعد النفسي لمشهد الإذلال، يتجاوز كلّ ذلك؛ إذ تستهدف القوة الإسرائيلية الناعمة، كيّ الوعي الجمعي للأهالي، عبر تصدير صورة ابن غزة الجائع، الذي يخوض صراع بقاء، يضطرّ عبره ربما للمسّ بقيمه الأخلاقية والقيمية، وهو ما يسهم بالتالي، من وجهة نظر العدو، في زيادة النقمة الشعبية على المقاومة، وتفريغ العمل العسكري الذي يصدّر بطولات كبرى في الميدان، من الاحتضان الشعبي. والواقع أن ثمّة طبقة من الشارع، صارت تتعاطى فعلاً على أن الحكم «الحمساوي» صار من الماضي، مستندةً في جانب من ذلك إلى غياب الرقابة الحكومية على مختلف القطاعات، وأهمها الاقتصادية، حيث الاحتكار والأسعار الفلكية للمواد التموينية.
في المقابل، تعيش أحياء كبرى في شمال وادي غزة، أوضاعاً أفضل، إذ تسهم مبادرات طوعية في فتح الشوارع المغلقة، وتوصيل المياه الجوفية، وتنظيف القمامة. ووفقاً لمصدر حكومي، فإنّ الجهود الطوعية التي لا تأخذ الشكل المنظّم، والتي يقوم عليها وجهاء العائلات وأبناء الأحياء السكنية، أضحت الخيار الوحيد لإدارة الواقع الاستثنائي، في ظلّ إصرار العدو على صناعة الفوضى، وتقويض أيّ فرصة لتوصيل المساعدات إلى الأهالي على نحو يوفّر احتياجاتهم ويحفظ كرامتهم.