غزة | لم تعُد مهمّة العمل الصحافي تستغرق حتى الوقت الاستثنائي الذي يتطلّبه المشي على الأقدام من أجلها؛ إذ أُضيف إليها، قسراً، في الشهر الأخير من عمر الحرب، الوقت الذي يستغرقه الآلاف من الأهالي أثناء استيقافهم الصحافيين لسؤالهم عن آخر الأخبار والمستجدات السياسية، أو عن المكان الذي توغّلت إليه أو انسحبت منه دبابات الاحتلال، أو عن مصير النازحين والمفقودين والأسرى. ذلك أن قطاع غزة يغرق في عزلة وانقطاع تامَّين عن الأخبار ووسائل الإعلام، أو حتى التواصل الداخلي عبر شبكات الهواتف المحمولة المحلية.وفقاً لمحمد سدر، وهو وزير الاتصالات في الحكومة الفلسطينية في رام الله، فقد دمّر جيش العدو نحو 70% من البنية التحتية لشبكتَي الهاتف المحمول في القطاع. وفي الأيام الماضية، قصفت طائرات الاحتلال طاقم شركة الاتصالات الفلسطينية «بال تل»، أثناء مهمة صيانة في مدينة خانيونس جنوبي القطاع، ما تسبب في استشهاد موظفي صيانة. وفي الوقت الحالي، تعاني شبكة الاتصالات الخليوية من تذبذب شديد، حيث تعمل في مناطق معينة في شمال غزة، وتغيب في أخرى، وتنقطع تماماً لأسابيع في المحافظة الوسطى، وحين تعود، تنقطع مجدداً في شمال القطاع وجنوبه. تسبب هذا كلّه في غياب التواصل اليومي بين النازحين في مناطق جنوب وادي غزة وشماله، وحتى في مناطق شمال غزة ذاتها، ليضطرّ الأهالي إلى قطع عشرات الكيلومترات مشياً على الأقدام يومياً، في مهمة البحث عن أقاربهم وأبنائهم المفقودين. يقول أبو محمد عودة، إنه لا يعلم شيئاً عن والديه وزوجته وأبنائه، منذ 70 يوماً، ويضيف، في حديث إلى «الأخبار»، أن «عائلتي نزحت من شمال القطاع إلى الجنوب، في الشهر الأول من الحرب. من يومها ما بعرف أخبارهم، عايشين أو ميتين، كل هواتفهم مغلقة، أو ما فيه شبكة». ويتابع الرجل الذي التقيناه قرب مركز إيواء «اليمني السعيد»: «كل يوم من الصبح باجي هان، بشحن الجوال كهرب بـ3 شواكل، وبدفع 4 شيكل ثمن ساعة نت، ببحث عن أسمائهم في قوائم الشهداء وصورهم، محتاج بس أفهم مصيرهم».
لا يمتلك أكثر الأهالي في شمال غزة تحديداً، إحاطة بالوضع الميداني ولا السياسي


حيث التقينا الشاب الثلاثيني، يتجمع المئات من النازحين في انتظار دورهم لاستخدام الإنترنت وشحن الهواتف. الحاجة إلى التواصل دفعت محمود الكحلوت، وهو يافع لم يتجاوز الـ15 عاماً، إلى افتتاح مشروعه البسيط الأكثر أهمية وإيرادات في هذا الوقت. ببساطة، استغلّ الكحلوت ألواح الطاقة التي كان يستخدمها في بيته، ومدّد شبكة كهرباء بسيطة، يتزاحم حولها المئات لشحن هواتفهم. يقول لـ«الأخبار»: «والدي موظف حكومي ما أخذ راتب من ثلاث شهور، كان لازم أتصرف حتى وفر فلوس لنأمن طعامنا اليومي. بشحن جوالات وراديوهات، الساعة بدولار. بشتغل من طلوع الشمس لغيابها (...) الحمد لله ساترين حالنا». أمّا محمد شاهين، فقد لعب معه الحظ هو الآخر، واستغلّ هاتفه «الآيفون» الذي يحصل عبره على الإنترنت من الشريحة الإلكترونية، وعمل في توزيع نقاط الاتصال. يقول لـ«الأخبار»: «كل الناس بحاجة الإنترنت ليطمئنوا على أقربائهم، أو يشوفوا أخبار الهدنة والمساعدات. بقدم نقطة الاتصال مقابل دولار في الساعة، والحمد لله بشتغل نهار وليل. في الليل تحديداً بيقوى الإنترنت، بعطي الشريحة كلها للصحافيين يبعتوا فيديوهات وصور، والله ما برضى آخذ منهم فلوس، بس هما ما بيقصروا».
على صعيد وسائل الإعلام، لا يمتلك أكثر الأهالي في شمال غزة تحديداً، إحاطة بالوضع الميداني ولا السياسي، إذ لا كهرباء لتشغيل المحطات الفضائية، ولا لشحن الراديوهات، وحتى إن توافرت، فإن الإذاعة الوحيدة التي يُسمع بثّها بشكل واضح، هي إذاعة «مكان» الإسرائيلية الناطقة بالعربية. يقول الحاج أبو رامي: «والله ما بنسمع منهم إلا أخبار بتسدّ النفس، الله يسامحهم القنوات العربية والفلسطينية، لو قادرين يصلوا لغزة كانت معنوياتنا أفضل من هيك».