اقتداءً بنظيرتها في لبنان، دائماً ما أدركت المقاومة في فلسطين أهمّية الإعلام كأداة في الحرب النفسية مع العدوّ الإسرائيلي. وكما تسنّى للمراقبين ولمعايشي مراحل المقاومة اللبنانية متابعة تطوّر «الإعلام الحربي» التابع لها بشكل تدريجي وطبيعي ومنطقي قبل تحرير جنوب لبنان عام 2000 وفي عدوان تموز 2006 وبعد 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، تسنّى لهم أيضاً ملاحظة تطوّر قدرات المقاومة الفلسطينية وإستراتيجيّاتها في هذا المجال بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، حتّى صارت لسان حال كثيرين في عالم ما بعد «طوفان الأقصى».وصل الأمر إلى حدّ استحال «المثلّث الأحمر المقلوب» المستمدّ من العلم الفلسطيني الذي تستخدمه «كتائب القسّام» الجناح العسكري لـ «حركة حماس»، ومثيله الأصفر الذي تستخدمه «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي» للدلالة على أهدافهما في الفيديوات التي تنشرانها، إلى رمزين اعتمدهما ناشطون حول العالم تعبيراً عن تأييدهم لفلسطين. ولا يختلف الأمر لدى المقاومة في لبنان والقوّات اليمنية المسلّحة، إذ جلس العالم يتابع عمليّاتهما الموثّقة عبر «الإعلام الحربي» وتأثيرها النفسي على كيان الاحتلال وراعيه الأميركي وحلفائهما.

(دعاء العدل ــ مصر)

وبينما «استنقع» العدوّ على أساليب إعلامية فيها ما فيها من كذب وتضليل ونفاق وتكتّم، سبق أن اعتمدها في ظلّ سيطرته ومشغّليه على معظم الإعلام التقليدي العالمي قبل زمن «ويكيليكس» وأخواتها، وفضح ناشطون من داخل الكيان وخارجه محاولاته التزويرية عبر الذكاء الاصطناعي في الأيّام الأولى التي تلت «الطوفان»، جنّدت المقاومة الفلسطينية قدراتها الإعلامية والنفسية «المطوّرة» لإيصال الرسائل إلى العدوّ والعالم بأسره. ورغم أنف الفلترة والتعتيم الذي تقوم به ميتا ومثيلاتها، أحسنت المقاومة استخدام الإعلام الجديد والتواصل الاجتماعي لإيصال قضيتها إلى عدد أكبر من الناس حول العالم والتلاعب بـ «مشاعر» حكومة الحرب في الكيان الغاصب وجمهوره الغاضب. وباتت المشاهد الحقيقية غير المتلاعب بها التي تنشرها المقاومة على نحو شبه يوميّ، تحتلّ شاشات التلفزة والعالم الافتراضي متضمّنةً عمليّات لمقاوميها تفضح بعضاً من خسائر العدوّ التي يتكتّم عليها غالباً، ورسائل بلغات عدّة بما فيها العربية والإنكليزية والعبرية، إضافة إلى كلام لمستوطنين وجنود أسرى لدى المقاومة يوجّهونه إلى حكومتهم بنبرة التأنيب والعتاب.
هؤلاء الأسرى كانوا محطّ جدال في الأيّام الأخيرة، نظراً إلى إجادة المقاومة استخدامهم كورقة ضغط في حربها النفسية من أجل الدفع نحو تحقيق مطالبها، وأوّلها وقف حرب الإبادة التي يشنّها العدوّ الإسرائيلي على غزّة والإفراج عن الأسرى الفلسطينيّين في سجونه. بدلاً من نشر المقطع بشكل مباشر، ارتأى «الإعلام العسكري» التابع لـ «كتائب القسّام» تصميم مقطع «تحضيري» على شكل برومو (أو حتّى تيزر بلغة أهل الإعلان) يسبق المقطع الأساسي (أو حتّى revealer بلغة أهل الإعلان)، مُظهراً مستوطنين أسرى يقولون كلمات معدودة فقط تعرّف عنهم وتدعو حكومة العدوّ إلى إيقاف الحرب، من دون الكشف عن مصيرهم.
ارتأى «الإعلام العسكري» تصميم شكل برومو أو تيزر يسبق «فيلم الرعب» عن المستوطنين المحتجزين


اللافت كان التركيز على هذه الطريقة في التكتّم على مصيرهم، فظهرت عبارة «انتظرونا... غداً سنخبركم بمصيرهم»، ملحقةً بعبارة «حكومتكم تكذب» باللغات الثلاث المذكورة آنفاً. ببراعة، أتقن «الإعلام العسكري» عمله من ألفه إلى يائه، بدءاً من الفكرة والرسالة والأسلوب، وصولاً إلى الإخراج والمونتاج والمؤثّرات البصرية وحتّى الصوتية. هكذا، لعبت المقاومة على أعصاب العدوّ الذي يفقد أعصابه أصلاً، وأنتجت له فيلم رعب مخصّصاً له يؤكّد تفوّقها في الحرب النفسية، وعدم تأثّرها بكلّ ما يدّعي العدوّ بأنّه يقوم به في غزّة. مجرّد إنتاج المقطع يثبت عدم تمكّن الصهاينة من تحقيق أيّ من أهدافهم، ولا سيّما الهدف المعلن بإعادة الأسرى. وبالفعل، نشرت المقاومة في اليوم التالي مقطعاً أطول للأسرى وهم يتوجّهون إلى العدوّ وحكومته ورئيسها، مرفقةً إيّاه بعبارة «نحن لا نزال على قيد الحياة، أعيدونا إلى البيت». في المقطع أيضاً، تروي الأسيرة الإسرائيلية نوعا أرغماني كيف قُصفت مع زملائها من قبل قوّات العدوّ قبل إنقاذ المقاومة لهم، فيما قُتل بعضهم بسبب قصف الاحتلال، وظهرت في المقطع صور لجثثهم إثباتاً لما يُقال.
في المحصّلة، أثبتت المقاومة حرفيّتها في استغلال العامل النفسي لمصلحتها في المعركة مع الاحتلال وعدوانه الهمجي، لكنّ النتائج لا تتعلّق فقط بالناحية النفسية لدى العدوّ. فمن جهة أخرى، نجحت المقاومة في تشكيل رأي عام عربي مؤيّد لها ولفلسطين، وباتت هناك كتلة من العرب على اختلافاتهم تنتظر مقاطعها ومثلثّاتها وأخبار عمليّاتها كأنّها نتائج مباريات كرة قدم. كذلك، انعكس الأمر عالميّاً، إذ تشكّل هذه المقاطع شوكةً في خاصرة آلة الكذب الصهيونية الرخوة، ولا سيّما لدى الرأي العام الغربي، وتحصد التعاطف لفلسطين ومقاومتها التي نجحت أيضاً في إجهاض كلّ البروباغندا الحربية التي هدفت للنيل منها، وأظهرت إنسانيّتها في مقابل وحشية العدوّ. هذا التعاطف الذي فشلت الدعاية الصهيونية المدعومة من دول الغرب وحكوماته وإعلامه بكلّ ما أوتيت من قوّة، في منعه. منع أفشلته مجموعة من المقاومين الذين سطّروا بأسهم في التاريخ.