أظهرت الأحداث الأخيرة في البحر الأحمر سوء تقدير لدى صنّاع القرار الأميركيين، الذين قدّروا أنّ استقدام الأساطيل وإطلاق التهديدات سوف يردعان صنعاء عن إكمال وقوفها إلى جانب القضية الفلسطينية، كما اعتقدوا أن اليمن سيخضع ويعيد حساباته في حال تحوّلت التهديدات إلى ضربات جوية لأصوله العسكرية. أما وأنّ الأميركي وقع في خطأ الاختبار، فإنّ وضعيته الحالية تشبه وضعية الكيان الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة، حيث لم يستطع، بعد أكثر من 100 يوم من عدوانه، إيجاد إستراتيجية خروج من المستنقع، وهو مضطّر للاستمرار في الحرب هناك كونه لم يحقّق أيّاً من أهدافه المعلنة فيها. وإذ يعني ما تقدّم مزيداً من العسكرة للبحرين الأحمر والعربي، وإلحاقاً للضرر الاقتصادي والسياسي بتل أبيب وحلفائها، فقد كشفت وكالة «بلومبرغ» أنّ شركات التأمين الدولية تفرض قيوداً جديدة على تغطية السفن المرتبطة بواشنطن ولندن وتل أبيب، كون معدّل استهداف الناقلات من قبل القوات البحرية اليمنية عالياً. ويلحق الصراع في البحرين الأحمر والعربي، ضرراً معنوياً كبيراً بالجانب الأميركي؛ إذ توقّف المراقبون أمام واقع أن واحدة من أفقر الدول العربية، تتحدّى أغنى وأقوى دولة في العالم، وتضرب سفنها، وتمنعها من إكمال مرورها إلى قناة السويس. وأعاد المراقبون التذكير بكيف أن الحروب في التاريخ لا يحسمها السلاح، بل الإرادة والعقيدة القتالية. ووصف أحد النشطاء المأزق الأميركي بالقول إن «اللعبة اتّسعت على البيت الأبيض»؛ فالأمور تتداعى في كل مكان، والإمبراطورية التي تتحكّم في 95% من بحار العالم، وفقاً لما جادل به جوزيف ناي قبل أعوام، وجدت نفسها عالقة في معركة بحرية ضدّ عدو لا تعرف سوى الشيء القليل عن خطورته.
ومن جهته، تناول الإعلام الغربي خبر استهداف السفن الأميركية باستهجان شديد، لأنه، بحسب ما هو متعارف عليه منذ عقود، لم تكن ثمة دولة في العالم تهدّد الولايات المتحدة، وتتجرّأ على تنفيذ تهديدها ضدّها. ودفع هذا الوضع إحدى المذيعات الشهيرات في محطة «سي أن أن» الأميركية إلى التساؤل عن كيفية «تحوّل الحوثيين من مصدر إزعاج لإسرائيل إلى تهديد أمني إقليمي حقيقي يمكن أن يكون له تأثير حقيقي على الاقتصاد العالمي؟»، ليوافقها الرأي ضيفها في القناة، يوئيل جوزانسكي، من «المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي»، والذي وضع الأمر في سياق تحالف حركة «أنصار الله» مع إيران.
السفن السعودية امتثلت لتعليمات البحرية اليمنية حول المرور في البحر الأحمر


وهكذا، يختبر اليمن ادعاءات القوة المطلقة للولايات المتحدة التي يعلم أنها لا تريد الحرب، في الوقت الذي يستعدّ فيه للدفاع عن نفسه بأغلى الأثمان في حال وقعت هذه الحرب. وهو اختبار لا تبدو فيه صنعاء على عجلة من أمرها، فيما إجراءاتها جعلت واشنطن غير قادرة على تصوّر مآلات المواجهة وكيفية التفكير في اليوم الآتي. ورغم ما يمثّله استهداف السفن والتأثير على الملاحة الأميركية والبريطانية من تحدٍّ لواشنطن ولندن، إلّا أنّ هذا الاستهداف ليس السلاح الأخير في جعبة القوات المسلّحة اليمنية، التي أظهرت التطوّرات امتلاكها الكثير من المفاجآت، سواء في المكان أو في نوعية الأسلحة، والدليل قدرتها على إصابة السفينة الأميركية في مكان غير متوقع في خليج عدن، بصواريخ مختلفة عن تلك المستخدمة من قبل.
على أن صنعاء ليست في عجلة من أمرها، بل أعلنت، منذ انخراطها في معركة الدفاع عن قطاع غزة، أن برنامجها يعتمد بشكل أساسي على التحلّي بالصبر الإستراتيجي، وهي تعمل وفقاً للحسابات السياسية والعسكرية، آخذةً في الحسبان للمرة الأولى في التاريخ الحديث أنّ موقع البلاد الجيوبوليتيكي يسمح لها بمروحة واسعة من الخيارات. كما أنها ترسل يومياً التطمينات عن سلامة الأمن الملاحي إلى جميع الدول، باستثناء إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا. والواقع أن المفاجأة الأصعب لصنّاع القرار الأميركيين أنّ دول الشرق والجنوب لم تتأثّر تجاراتها، وبقيت سفنها تعبر باب المندب والبحر الأحمر بسلاسة. وأظهرت بيانات منشورة على موقع «AIS» الدولي المتخصص بمراقبة حركة السفن، أن السفن العابرة إلى البحر الأحمر كتبت في هوية التعريف الخاصة بها على الموقع أنه لا علاقة لها بإسرائيل، فيما جزء منها أذاعت أنّ طاقمها صيني بالكامل، في محاولة لتجنّب هجمات البحرية اليمنية، حتى أنّ السفن السعودية امتثلت للتعليمات اليمنية في هذا الصدد.
وفي مقابل الإخفاق الأميركي في تجميع تحالف قوي في البحر الأحمر، نجح اليمن، جرّاء ربطه وقف عملياته العسكرية بوقف النار ورفع الحصار عن غزة، في استقطاب عدد من الدول، ولا سيما العربية، إلى جانبه. وفي هذا السياق، كان لافتاً الموقف السعودي الذي عبّر عنه وزير الخارجية، فيصل الفرحان، بالقول إن «ما يحدث في البحر الأحمر مرتبط بما يحدث في غزة». وهو موقف قابلته صنعاء، عبر نائب رئيس وفدها المفاوض، عبد الملك العجري، بالقول إن كلمات وزير الخارجية السعودي والمتحدّث باسم الخارجية القطرية وقبلهما تصريحات وزارات خارجية عمان ومصر والجزائر ودول عربية أخرى في الاتجاه نفسه، تعكس فشل المحاولات الأميركية لفصل عمليات الجيش اليمني عمّا يحدث في غزة، وتصويرها كما لو أنها مصدر التوتر الإقليمي، وليس العدوان الإسرائيلي. وقدّم العجري عرضاً لدول الإقليم والدول المشاطئة لإقامة شراكة في حماية أمن المنطقة واستقرارها، معتبراً ذلك مسؤولية ومصلحة مشتركة لدولها، مؤكداً أنّ اليمن جاهز للتعاون بمسؤولية مع جيرانه وأشقّائه العرب ومحيطه الإسلامي والأفريقي بعيداً عن التدخّلات الأميركية التي لم تجلب إلا الخراب.