للوهلة الأولى، يبدو أن المواقف التي تبنّتها الصين، بعد أحداث السابع من أكتوبر، لم تخرج عن إطار ما هو «مألوف»، إن من ناحية الدعوة إلى «ضبط النفس»، أو الشروع في العمل على تطبيق «حلّ الدولتين»، أو غيرها من الدعوات التي قد يرى البعض أنها «لا ترقى» إلى مستوى الأحداث القائمة. بيد أنّه هذه المرة، يجدر الأخذ في الاعتبار أن هناك فرقاً أساسياً طرأ على المعارك التي كانت تدور، سابقاً، بين المقاومة وقوات الاحتلال، وهو «حجم» عملية «طوفان الأقصى»، والضرر الذي ألحقته، ولا تزال، بدولة الاحتلال وقدراتها وصورتها. وهذا ما دفع، على الأرجح، بالعديد من وسائل الإعلام الغربية، إلى اتهام بكين، التي رفضت، منذ اللحظة الأولى، إدانة «حماس» أو تصنيفها كجماعة إرهابية، بالانحياز إلى الأخيرة. وفيما كان صُنّاع السياسة ووسائل الإعلام في الغرب يحضّرون الرأي العام لتقبّل الإبادة الجماعية الإسرائيلية بحق أهل غزة، من خلال الترويج أنّ الكيان تعرّض لـ«هجوم إرهابي»، واللعب على وتر «معاداة السامية»، وبثّ العديد من الأكاذيب المضلّلة الأخرى، أكّدت بكين، باكراً، أنّ الحملة العسكرية الإسرائيلية تجاوزت حق «الدفاع عن النفس»، متهمةً قوات الاحتلال بممارسة «عقاب جماعي» بحق الفلسطينيين. على هذا النحو، بدت مواقف الصين، والتي رفضت، أسوةً بالعديد من دول الجنوب، إخراج الحرب الأخيرة من سياقها التاريخي، متّسقةً مع رؤى عدد كبير من البلدان العربية، ما جعلها تكتسب شعبية كبرى لدى هذه الدول وشعوبها، بينما يتضح، أكثر فأكثر، حجم الضرر الذي يلحقه «تعنّت» حكومة رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، المأزومة، بعلاقات الولايات المتحدة مع «شركائها» العرب، وبسمعة واشنطن لدى الرأي العام العربي.وعلى ضوء ما تقدّم، يطرح العديد من المراقبين تساؤلات كبيرة حول سبب عدم تبنّي الصين، أخيراً، مواقف داعمة لإسرائيل، التي شهدت علاقاتها معها، منذ عهد خليفة ماو تسي تونغ، ومهندس سياسة «الإصلاح والانفتاح»، دنغ شياو بين، الذي أعطى الأولوية للتنمية الاقتصادية، ازدهاراً كبيراً، ولا سيما في مجال مبيعات الأسلحة والتعاون الأمني. وانسحب هذا النمو في العلاقات على القرن الواحد والعشرين، وصولاً إلى توقيع بكين وتل أبيب في عام 2017 على اتفاق «شراكة شاملة مبتكرة»، حوّل الصين إلى أكبر شريك تجاري للكيان. ويرجّح المراقبون أنّ التحول الصيني مردّه، على الأرجح، إلى صُنّاع السياسة في بكين الذين بدأوا يدركون أنّ التعاون الاقتصادي مع تل أبيب لن يكون كافياً لإغراء الأخيرة وجعلها تخرج من تحت العباءة الأميركية، وأنّ واشنطن لن تسمح، بدورها، للصين بـ«التمادي» في التعاون مع ذراعها العسكرية والأمنية في الشرق الأوسط، ولا سيما في المجالات الحساسة، كالتكنولوجيا، وتحديداً تلك التي يتم تطويرها في الولايات المتحدة.
تدرك بكين على الأرجح أنّ التعاون الاقتصادي مع تل أبيب لن يخرج الأخيرة من تحت العباءة الأميركية


وكان ذلك انعكس بأن بدأت التحذيرات الأميركية، في ما يتعلق بضرورة تخفيف تل أبيب تعاونها مع بكين، واتخاذ مواقف «أكثر صرامة» من عدّة شركات صينية، على غرار «زد تي إي» «وهواوي»، تؤتي ثمارها خلال السنوات الماضية، في وقت كان فيه الإعلام العبري والغربي يروّج منذ مدة، أنّه سيكون على إسرائيل «الاختيار»، عاجلاً أو آجلاً، بين الخصمَيْن العالميَّيْن. فقد نقلت وكالة «بلومبرغ» مثلاً، عام 2022، عن مسؤول كبير في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلية، قوله إنّ الشركات الإسرائيلية الناشئة أصبحت، على الأرجح، «أكثر انتقاءً»، وإنّه «حتى لو لم تنجح واشنطن بعد في إقناع تل أبيب بتبنّي أجندتها بالكامل تجاه بكين، إلا أنها جعلت العديد من رواد الأعمال الإسرائيليين يشعرون بضرورة الاختيار بين طرفين»، فيما تشكّل الشركات الأميركية والأوروبية الخيار «الأكثر أماناً» بالنسبة إليهم. وعلى إثر هذه التطورات وغيرها، بدت الصين، منذ ما قبل عملية «طوفان الأقصى» حتى، أكثر جراءة في وجه الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ استغلّت، على سبيل المثال، في أيار عام 2021، موقعها كرئيس دوري لـ«مجلس الأمن الدولي»، لتوجيه انتقادت حادّة إلى واشنطن، على خلفية دعمها الاحتلال الإسرائيلي وتجاهلها معاناة الفلسطينيين، في أعقاب جولة القتال التي كانت دائرة آنذاك في غزة.

مرفأ حيفا
يشير تقرير نشره «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بشكل خاص، إلى ردّة الفعل العنيفة التي بدرت عن واشنطن، في أعقاب فوز «مجموعة ميناء شانغهاي الدولي» (SIPG)، عام 2015، بمناقصة لتشغيل محطة جديدة في ميناء حيفا، حيث كانت السفن الأميركية تتواجد بكثرة. وقد أدّت ردّة الفعل تلك إلى زيادة التنسيق بشكل كبير بين واشنطن وتل أبيب، بشأن السياسة الإسرائيلية إزاء الصين. وفي وقت لاحق، وطبقاً للمصدر نفسه، ساهم هذا التحول، جزئياً، في تراجع الاستثمارات الصينية في إسرائيل بشكل لافت، علماً أنّه في السابق، كانت بكين مستفيدة من غياب أنظمة الرقابة على الاستثمار التكنولوجي في الكيان، على عكس الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية.