غزة | في ساعة متأخرة من مساء الأربعاء الماضي، شنّت طائرات «الكواد كابتر» هجوماً بالرصاص الحيّ على آلاف النازحين الذين اتّخذوا من مقرّ مبنى صناعة «وكالة الغوث»، ملجأً لهم. على إثر ذلك، استشهد فتى لم يتجاوز الخمسة عشر ربيعاً، فيما لم يجد الآلاف من الأهالي مفرّاً من ترك المبنى الذي يقع غربيّ مدينة غزة. حملت العائلات ما استطاعت من أغطية ومواد تموينية وخرجت في ظلام الليل الحالك، قاصدة وجهة لم تتحدّد بعد. أمّ محمد مهدي، وهي واحدة من هؤلاء، تقول في حديثها إلى «الأخبار»: «فش حدا فاهم شو صار. كنّا بأمان الله، صارت الطيارة تطلق النار عشوائياً على ساحة المبنى. طلعنا وما عرفنا وين نروح. بتنا ليلة كاملة في الشارع». في حيّ التفاح شرقي مدينة غزة، تكرر المشهد ذاته، حيث توغلت الدبابات الإسرائيلية واعتلت جبل الريس، وأصبحت منازل المواطنين التي عادوا إليها قبل أيامٍ عدة، عرضة لإطلاق الرصاص والرمايات المدفعية. ولذا، اضطرّ المئات من الأسر إلى ترك منازلها، والعودة مجدداً إلى مدرسة يافا. وبحسب أبو أحمد الريفي، فقد استغرق تنظيف المنازل من الركام والزجاج أسبوعاً ونصف أسبوع، ولم تكَد عائلته الممتدة «تحمد الله على الراحة من كرب مدارس الإيواء»، حتى عاد مجدداً. يقول الأب، الذي تجاوز من العمر أربعين عاماً، لـ«الأخبار»: «قدرنا أن ننزح للمرة الثلاثين في خلال أيام الحرب. فكرة النزوح أصعب من الاستشهاد. لا أحد بوسعه تحمّل هذا القدر من الحيرة والتردد والشعور بعدم الأمن. ظننّا أن عهد العملية البرية قد انتهى، لكن الحرب عادت من جديد». كذلك، اضطرّ مئات العائلات إلى ترك المنازل التي عادت إليها أخيراً في شارع غزة القديم جنوب منطقة جباليا البلد. هناك، فوجئ أبو أحمد المطوق بعودة القصف المدفعي، بالوتيرة التي كان قد خبرها خلال أيام التوغل البري. يقول المطوق لـ«الأخبار»: «حملت أمي المقعدة، ولحقت بي عائلتي في منتصف الليل، وتوجّهنا إلى أقرب مدرسة منا. وفي صباح اليوم التالي، عدنا إلى المنزل، وأدركنا أن خروجنا كان توفيقاً من الله، إذ سقطت ثلاث قذائف مدفعية على البيت». أما أحمد النخالة، فقد قرّر برفقة والديه وعائلته، أن إعادة تجربة النزوح الأليمة لن تكون قدره المحتوم في هذه الحرب. يقول لـ«الأخبار»: «عزمنا أمرنا على البقاء حتى لو قصف المنزل على رؤوسنا. لم يعد في وسع أحد منا أن يعيد تجربة الذل. المنزل أو الموت، هذا قرارنا الذي لا رجعة فيه».
تتضاعف أزمات الحصول على المياه والطعام في مدارس الإيواء


في مدارس الإيواء التي ازدحمت بآلاف النازحين مجدداً، تتضاعف أزمات الحصول على المياه والطعام، وتخلو الأسواق من كل أنواع المؤن، فيما يغيب أيّ دور حكومي أو أهلي أو خيري ينظّم الواقع المتردي. هناك، يحمل الناس في قلوبهم كثيراً من الغضب تجاه الدول العربية والإسلامية التي تركتهم وحدهم، لكنهم أيضاً يعتبون على القيادات المحلية والأجهزة الحكومية التي لم تستطع بعد أكثر من 100 يوم من الحرب، تشكيل إطار ينظّم حياة الأهالي ويؤمن احتياجاتهم، في ظل الفوضى التي تزيد من المعاناة. يقول أحمد أبو حسين: «غرقت الأسواق بالأرز في يوم. وفي اليوم التالي، سُحب الأرز من الأسواق دفعة واحدة، ثم أعيد طرحه بفارق سبعة شواكل للكيلو الواحد. هناك من يتاجر بمعاناة الناس وجوعهم، ولا رقيب يوقفه عند حدّه».